الحضارة الإسلاميّة بين خطاب “الألفة” وخطاب “الوحشة” ، بقلم : حسن إسميك
اهتم التفكير الفلسفي منذ بداياته باللغة وفاعليتها في الوعي الإنساني، ثم تتالت جهود المفكرين لوضع مفاهيم جديدة تفسر الظاهرة اللغوية وتأثيرها، ومنها مفهوم “الخطاب” الذي تجاوزت دراساته الدلالة البسيطة والواضحة لفعل الخطاب بشقيه: الشفاهي والكتابي، لتبحث في أبعاده الفلسفية والاجتماعية والنفسية، وفي ارتباطه بالواقع وتطوره عبر التاريخ وضمن السياق الحضاري للأمة، انطلاقاً من فرضية التلازم الجدلي بين صعود الحضارة وهبوطها من جهة، وبين أنواع الخطاب وبناه ومضامينه من جهة أخرى، إذ يحتل الخطاب في حضارة الأمة مكانتين متميزتين ومتكاملتين في الوقت ذاته، الأولى أنه يعكس روح هذه الحضارة وقيمها ومثلها، والثاني أن علوّ مستواه أو انحداره يؤثر في الاستمرار الحضاري أو توقفه، بمعنى أنه لا حضارة للأمة من دون خطاب يعكس هذه الحضارة ويدافع عنها في آن معاً.
وبالنظر إلى الحضارة العربية الإسلامية، سيجد المتأمل أنها مثلت دائماً، وعبر تاريخها الطويل والغني، حالة جدلية ومعقدة، احتل “الخطاب” فيها مركزاً محورياً منذ اللبنات الأولى لتأسيس هذه الحضارة مع ظهور الإسلام، وما زال يحتل هذا المركز إلى اليوم. فالإسلام نزل في الأصل كخطاب إلهي مطلق وشامل، ثم تنوعت أشكال الخطاب وتعددت، حتى بات مشتهراً الحديث عن الخطاب العلمي لهذه الحضارة، والخطاب الفلسفي، والخطاب السياسي.. إلخ.
مقابل هذا التصنيف الذي يركز على موضوعات الخطاب، ثمة تصنيف آخر لخطاب الحضارة الإسلامية يتعلق بالاتجاهات ويرتبط بالقيم والأهداف أكثر من ارتباطه بالموضوعات بحد ذاتها، ويمكن تتبع هذا التصنيف في اتجاهين اثنين: خطاب الألفة والخطاب المضاد له، والذي سأطلق عليه هنا اسم “خطاب الوحشة” كمضاد للألفة. إذ بينما يؤكد الأول سعة الحضارة الإسلامية وانفتاحها على الآخر المختلف، وتكريس قيم السلام والعدالة والمساواة بين الجميع، ورفض أشكال التمييز والكراهية ضد الآخر، عمد خطاب الوحشة إلى تكريس رفض الاختلاف، ومحاربة المختلف، ومقاومة وجوده، والحض على كراهيته، وتكفيره، وإعلان الحرب عليه وهدر دمه. ولقد ظهر الخطابان جنباً إلى جنب منذ انطلاق الإسلام، واستمرا عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، وما زالا مستمرين رغم خفوت نور هذه الحضارة وتراجع دورها بين الأمم.
واليوم.. يدافع أنصار خطاب الألفة عن أن الحضارة الإسلامية ما كانت لتحقق ما حققته لولا تمثل المجتمع للقيم التي حضّ عليها هذا الخطاب، وأن الانحدار الحضاري الذي أصاب الأمة يعود في أهم أسبابه إلى تراجع هذا الخطاب، مقابل صعود خطاب الوحشة الذي بلغ مستويات لم يبلغها من قبل، وانعكس ذلك في انتشار الحركات الجهادية والأصولية، وفي ازدياد قوتها واتساع الشريحة المؤيدة لها.
في المقابل، يدّعي مؤيدو خطاب الوحشة أنهم وحدهم المتمسكون بالعقيدة الصحيحة، وأن سبب انحسار الحضارة الإسلامية هو التخلي عن هذه العقيدة، وأن لا سبيل لاستعادة الأمجاد السابقة إلا بعودة الجميع إلى الطريقة التي هم عليها. وللأسف فإن هذه الادعاءات تمثل اليوم المسلّمات التي تتأسس عليها أيديولوجيات الحركات الجهادية التي تعاظم حضورها أضعافاً مضاعفة، واستطاعت أن تحقق ميدانياً تجربة “دولة داعش”، رغم أنها لم تصمد لبضع سنوات، ولم تعرف الاستقرار يوماً واحداً على الأقل.
لا أعتقد أن خطاب الألفة وخطاب الوحشة خاصان بثقافة الحضارة الإسلامية دون غيرها، بل هما خطابان يرتبطان بالطبيعة البشرية ذاتها، وقد وُجدا منذ أن استطاع الإنسان التعبير عن أفكاره، وسيستمران مع استمرارنا جنباً إلى جنب، لأن الغلبة المطلقة لأحدهما ستحيل الحياة على الأرض إما جنة دائمة أو جحيماً لا يستقيم معه عيش، لكن طبيعة الحياة تفترض استمرار الصراع القائم بين هذه التناقضات التي يعكسها الخطابان.
ورغم أني أظهرت الحياد موقتاً في تناول الخطابين، إلا أنه لا يمكن أن أكون، أو يكون غيري، حيادياً في ذلك، ذلك لأنهما من طبيعتين متناقضتين لا يمكن رفضهما معاً، ولا قبولهما معاً. ولذلك أدافع دائماً عن القيم التي يدافع عنها خطاب الألفة، والتي أعتقد أنها مثلت إحدى أهم ركائز نشوء الحضارة وتطورها، كما أعتقد أن مسيرة الحضارة البشرية ككل، مهما تبدلت عليها الأمم وتغيرت، هي مسيرة تغليب قيم الألفة وقبول الآخر والترحيب بالاختلاف على أساس المساواة بين البشر مهما اختلفت أفكارهم وأديانهم وثقافاتهم.
ولا يمكن إنكار أن الغلبة في الحضارة الإسلامية كانت لخطاب الألفة دائماً، ذلك الخطاب الذي لم يكرسه علماء الدين وفقهاؤه فحسب، بل الفلاسفة والأدباء والمفكرون، وهو ذاته الخطاب الذي أيده ودعا اليه القرآن الكريم، وشواهد ذلك كثيرة لا يمكن حصرها، أما ما يستشهد به أنصار الخطاب المضاد فهو ليس إلا تأويلاً في غير مكانه، وانحرافاً عن جوهر الإسلام ورسالته.
ولذلك تنطلق دعواتنا في تجديد الخطاب الديني من العمل على تغليب خطاب الألفة مرة أخرى، وتكريس قيمه وأدواته، بخاصة أن هذه القيم والأدوات تمثل شرط الاستقرار الذي تبنى عليه الحضارات، كما أنها تمثل في الوقت ذاته أداة العمل والبناء.