عن الحقيقة أحدثكم! بقلم : فاطمة المزروعي
في حياتنا المعاصرة جملة من القضايا والمواضيع الحيوية والهامة جداً، وإذا أمعنا النظر فيها بشكل موضوعي فإننا سنلمس بأنها مواضيع متجذرة في التاريخ وبأنها كانت مرافقة للإنسان منذ الأزل وحتى يومنا هذا، بمعنى رغم معاصرتها وظهورها على السطح وكأنها قضية حاضرة وجديدة إلّا أنها أيضاً لها عمق في الزمن الماضي، لن أذهب بعيداً وسأستحضر موضوعاً يتعلق بجوهر الحقيقة وعمقها وأثرها وملامستها ليس للإنسان وحسب بل لكافة تفاصيل حياته، بمعنى أنها كانت الدافع نحو تطوره وتقدمه، نحو تميزه عن باقي المخلوقات التي تشاركه الأرض، ذلك أنها منحته الرقي وسمحت لعقله بالتطور واكتساب المهارات والأفكار والتوسع والتعلم، ذلك أن الحقيقة تبني وتترسخ، ولا يصدمها أو يضج مضجعها إلّا الأوهام والخرافات.. أحسب أن هذا الجانب أدركه الإنسان منذ القدم، لذا كان دوماً يدعي أنه يسلك طريق الحقيقة ويسير نحوها. في هذا السياق أستحضر مقولة بليغة لابن عربي، لها دلالة عميقة وفيها تلخيص لكثير من الجوانب: «الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدد السالكين». ولعل من دلالات هذه المقولة أنه يتحدث عن الطريق الذي يؤدي إلى الحقيقة لا الحقيقة نفسها، وأن هذه الطرق تتعدد، فليست طريقاً واحدة، وبالتالي لا نعلم من قد يصل إلى الحقيقة ومن ينحرف عنها خلال مسيرته. لذلك نسمع بوجهات نظر مختلفة وآراء متعددة في كل قضية تثار وتصبح مشاعة للحديث حولها. لكن ليس ما يواجه الحقيقة من عقبات هو الوصول لها، بل هناك صعوبات أخرى تعيقها وتمنعها ولعل من هذه المعوقات المعتقدات المسبقة أو ما يسمى بالقناعة التامة، وهذا الجانب هو الذي سلط الضوء عليه الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه، عندما قال: «القناعات الراسخة أكثر خطورة على الحقيقة من الأكاذيب». وعندما يتحدث فيلسوف بحجم نيتشه مؤلف كتاب إنسان مفرط في إنسانيته، ويؤكد على أن خطورة المعتقد الراسخ –القناعات– تتجاوز خطورة الكذب، فهذا دليل أنه ينظر للموضوع من جانب حيوي وهام يتعلق بالحقيقة والكذب، ذلك أنه من البديهي أن نشاهد الأكاذيب تهزم وتندحر أمام الوقائع، فحتى لو حدث تأخر في معرفة الكذبة إلا أنها سرعان ما تظهر ويتم اكتشاف زيفها، فلا أحد يحمي الكذب عندما ينبلج نور العلم والاكتشاف، ولعل الكذب يتمثل هنا في الخرافات والأساطير التي تندحر يومياً أمام سطوة العلم والاكتشافات الحديثة، لكن المعضلة عند نيتشه تتمثل فيمن يرفض الحقيقة لأنها فقط تتعارض مع قناعته الراسخة، وليست في الكذب وما يمثله من الخرافات والأساطير، لأن الواقع كفيل بهزيمتها دون عناء محاولة إقناع أتباعها، سأضرب مثالاً بمواضيع تتعلق بعلم الفلك والذي كان يعتبر خرافة وعلماء الفلك مجرد مشعوذين وسحرة، وتم التصادم مع أقوالهم واكتشافاتهم مثل دوران الأرض وكرويتها، والتي ثبت فيما بعد أن الفلك علم وأن الأرض كروية وتدور، صحيح أن هذه الحقيقة تأخرت وذهب ضحيتها الكثير من العلماء الذين تم قتلهم بتهمة التجديف والسحر.. لكنها أخيراً ظهرت، وانزوت وتلاشت الأصوات المعارضة لهذه الحقيقة.. الحال نفسه في مجالات علمية أخرى مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء، والتي واجهت حرباً عدائية قاسية لكن مع التطور الإنساني لم يكن هناك أي مفر إلا الاستسلام لها وهو ما يعني استسلاماً للحقيقة.