ربيعنا الفلسطيني الذي سيزهر بقلم : مهند عبد الحميد
ما بعد انتفاضة 2021 الشعبية والمسلحة لن يكون الحال الفلسطيني كما قبلها بكل المقاييس.
هذه الانتفاضة التي شارك فيها كل المكونات والمراكز الفلسطينية في الوطن وفي الشتات بعد ردح من الحصار والتهميش والتمييز والتصفية السياسية.
كانت البداية باندلاع هبة شبابية في مدينة القدس سرعان ما تحولت إلى انتفاضة شارك فيها فلسطينيو الداخل – مناطق 48 – ومدن الضفة والقطاع وجماهير فلسطينية في الخارج.
وقد حظيت الانتفاضة بدعم وتأييد شعوب وبلدان عربية وعالمية.
وفي أقل من شهر بدأت الانتفاضة تفرض مستوى من التراجع الإسرائيلي في باب العامود والمسجد الأقصى والشيخ جراح، وفي الأثناء بدأت مواجهة عسكرية انطلاقاً من قطاع غزة بمبادرة من حماس وفصائل مقاومة أخرى هدفها تحويل التراجع الإسرائيلي من تراجع تكتيكي إلى تراجع نهائي.
اندلعت الانتفاضة التي كانت بمثابة ربيعنا الفلسطيني بعد أن «بلغ السيل الزبى»، في ظل مسلسل الحصار والتجويع والتهويد والتطهير العرقي والاستيطان والإذلال وتهميش قضية شعب بكامله، وبعد أن استمر التعاطي الإسرائيلي والإقليمي والدولي مع صفقة القرن التصفوية بالرغم من سقوط مدبريها (ترامب وفريقه الصهيوني).
وبعد أن تم إرجاء أو إلغاء الانتخابات الفلسطينية بقرار لم يكن متفقاً عليه فلسطينياً.
في هذا الخضم وُضع الشعب الفلسطيني أمام خيارين الأول: قبول الأمر الواقع الذي يعني القبول بتصفية حقوقه وقضيته والنيل من كرامته. الخيار الثاني: ممارسة حق النقض والاعتراض والاحتجاج والانتفاض والمقاومة. دائماً كان الشعب الفلسطيني ضد الخنوع ومع النضال من أجل التحرر وانتزاع حقوقه المشروعة مهما كلفه هذا الخيار من تضحيات.
هل كان الجمع بين الانتفاضة الشعبية والمواجهة العسكرية ضرورياً. يقول المتحمسون للمواجهة إن دولة الاحتلال تمادت في استباحة كل شيء ولم يبق أمام المقاومة إلا الرد لوقف الغطرسة الإسرائيلية.
نعم، لم تترك دولة الاحتلال أي هامش إلا واستباحته، وأغلقت كل الأبواب أمام العمل السياسي، ووصلت مواقفها وإجراءاتها (بالحصار الخانق لقطاع غزة والتطهير العرقي في القدس والأغوار) حد طمس أبسط حقوق الشعب والنيل من كرامته.
ولكن من المعروف أن أي مواجهة عسكرية مع هذه الدولة الاستعمارية في ظل الانحياز الأميركي والتواطؤ الدولي معها، سيمنحها حرية الإمعان في تدمير البنية التحتية وقتل أكبر عدد ممكن من المواطنين في قطاع غزة.
ففي البيانات الصادرة عن إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي يتكرر الموقف القائل «من حق إسرائيل أن تدافع عن أمنها وأمن شعبها».
موقف يتعامل مع دولة محتلة تمارس التطهير العرقي والعقاب الجماعي وتسطو على الأرض والموارد، كضحية ينبغي عدم المس بها «وإنقاذها فورا».
موقف أقل ما يقال عنه إنه وقح واستفزازي كونه لا يلتفت إلى استباحة هذه الدولة لأمن شعب أعزل على مدار عقود وعقود يومياً وباطّراد.
موقف يتجاهل الاحتلال والغطرسة والعنصرية والنهب والإذلال ولا يربط بين أمن إسرائيل وإنهاء الاحتلال.
لقد عطلت إدارة بايدن ثلاثة اجتماعات لمجلس الأمن وحالت دون صدور مجرد بيان يحترم ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وأعطت نتنياهو حرية مواصلة التدمير والتشريد والقتل في قطاع غزة. لماذا لا تصب كل الجهود الفلسطينية في انتفاضة شعبية منظمة تشارك فيها أوسع الفئات الشعبية في الضفة وعلى حدود غزة ومناطق 48، تؤمن لها المقاومة الحماية بالرد على كل جريمة أو انتهاك بحق المنتفضين والمواطنين والأبرياء.
انتفاضة لها أهداف ملموسة تتمحور حول فرض تراجعات على الاحتلال وأهداف لها صلة بإعادة بناء المؤسسة الفلسطينية وتفعيل وتطوير أدوارها.
انتفاضة تفتح على كل المتضامنين من حركات جماهيرية وبرلمانيين وأحزاب ونقابات ونخب ثقافية وفنية عربية وعالمية.
إعطاء زخم للانتفاضة يعني إشراك الشعب في معركة إنهاء الاحتلال والاستيطان، وفي مهمات دمقرطة المجتمع وإعادة بناء مؤسساته.
التحول إلى هذا المسار التكاملي بين مقاومة وانتفاضة يدخل دولة الاحتلال في عزلة ويعاظم الضغوط الشعبية ضدها، ويسهل فرص فرض التراجع عليها.
صحيح أن المواجهة العسكرية مع دولة الاحتلال، أربكت غطرسة القوة الإسرائيلية، عندما شوشت وظائف الدولة وألحقت خسائر معنوية واقتصادية كبيرة، وطرحت نظرية الردع الإسرائيلية التي أرعبت دولاً عربية عديدة على بساط البحث، وبرهنت على أن احتلال إسرائيل لأراضي الغير ليس قدراً أبدياً لا فكاك منه، وأن هيمنتها على المنطقة باتفاقات مذلة ليست قدراً أيضاً.
تستطيع الشعوب أن تغير هذه المعادلة، كما غيرتها شعوب أخرى مع قوى الاستعمار القديم. وأنزلت هذه المواجهة «القبة الحديدية» الإسرائيلية المضادة للصواريخ من عليائها بعد فشلها منسوباً للترويج الشديد الذي جلب المشترين من كل حدب وصوب.
وعَرَّت الحرب ادعاء المؤسسة الأمنية والدولة الإسرائيلية التزامهما بمبدأ «طهارة السلاح» وقد مارسا دعاية مركزة في الأيام الثلاثة الأولى استهدفت الرأي العام الغربي، عنوانها طلب إخلاء المباني من السكان المدنيين قبل هدمها.
ألا أن أي تدقيق في حصيلة الخسائر سيجد سقوط 55 طفلاً و33 سيدة من أصل 188 شهيداً جراء الغارات، سيجد أن عائلات بأكملها وجدت تحت أنقاض البنايات المدمرة.
في مقابل شيطنة المقاومة مع أن عدد القتلى الإسرائيليين جراء القصف الصاروخي بلا إنذار لم يتجاوز الـ10 بينهم طفل واحد.
رغم البون الشاسع في الخسائر التي تتحدث عنها الأرقام إلا أن الولايات المتحدة ودولاً أوروبية عديدة لم ترَ غير معاناة الإسرائيليين المضخمة عبر وسائل الإعلام، بعد أن أقفلت عيونها عن المعاناة الحقيقية لمليوني فلسطيني يعيشون حالة من الرعب وقد أصبحت حياتهم تحت رحمة القصف الإسرائيلي بأعتى وأحدث الأسلحة.
شعوب ومنظمات وقوى ونقابات ونخب ثقافية وأكاديمية وفنية وحقوقية وأعضاء برلمانات في أنحاء العالم انحازت إلى الشعب الفلسطيني الذي احتل مكانة الضحية من وجهة نظرهم ليس في أيام الحرب وحسب بل وعلى امتداد 73 عاماً من النكبة المستمرة التي صنعها الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي بهم.
في هذا الصراع الشائك، لا بديل عن الانتفاضة الجماهيرية التي توحد الشعب، في مواجهة الخطر الداهم الذي يواجه الآن عموم الشعب الفلسطيني وحركاته السياسية والاجتماعية ممثلاً بالعدوان الإسرائيلي.
ومن المنطقي والمفترض تغليب التناقض مع هذا الخطر على التناقضات الداخلية.
وهذا يجعل هدف وقف العدوان (الضم في القدس والضفة) ووقف تدمير قطاع غزة وتشريد مواطنيه، ووقف الاعتداءات العنصرية الفاشية في مناطق 48، مهمة أولى لا يضاهيها أي مهمة أخرى، وذلك توطئة للمهمة المركزية وهي التحرر من الاحتلال. أما بعد إفشال العدوان وأهدافه فتتحول مهمة إعادة بناء المؤسسة الفلسطينية في الداخل والخارج المرتبطة ببرنامج التحرر الوطني إلى مهمة إجرائية غير قابلة للتصرف أو التأجيل.
إعادة البناء تكون من خلال الانتخابات المتفق عليها سابقاً. مع التأكيد على أن الانتخابات قرار فلسطيني مستقل يعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني، رغم أنف سلطات الاحتلال.