سعى الواصلون لسدة الحكم في ظل “الربيع العربي” الى تقديم الضمانات والتعهدات ” للمجتمع الدولي” ، وطمأنة الغرب والشرق على مصالحهم في بلادنا ، وجاءت تلك التعهدات في خضم الثورة و خلال الحملات الانتخابية وعند تسلم السلطة على شكل لازمة لا مفر منها.
وتكررت تلك التعهدات على ألسنة “الزعماء الجدد” حتى اخذت شكل قسم أبقراط قبل مزاولة المهنة ، لتضيف لمسرح نقل السلطات و تغيير الاشخاص مشهدا ثابتا يقسم فيه ” الزعماء الجدد” ويتعهدون بالالتزام بالمعاهدات الدولية ، وعدم التدخل في شؤون الغير ، والحفاظ على مدنية الدولة وديمقراطية النظام و احترام حقوق الاقليات ، وعدم المساس بالتزامات النظام السابقة ..وغبرها من بنود “قسم مزاولة مهنة الزعامة السياسية بعد الثورة” .
زعامة تتناقض بقسمها هذا وتعهداتها تلك مع ثورية الشارع وروح التغيير الجذري التي تجتاح الامة ، فبعد ان ركبت تلك القوى موجة التغيير ووصلت لسدة الحكم ابقت على جذور النظام وأركانه ، وتعهد ” الزعماء الجدد” بالوفاء والالتزام والمحافظة على شبكة الارتباطات الخارجية للانظمة السابقة ، تلك الشبكة من العلاقات التي ضمنت ارتهان الانظمة السابقة وتبعيتها للدول الاستعمارية التي دعمت وجودها وساهمت في ترسيخ اركانها ذلك لانها لم تكن إلا الحارس الامين على مصالح الدول الاستعمارية في بلادنا ، جاء ذلك التعهد على شكل ضمانات بالالتزام بالمواثيق الدولية والمعاهدات الموقعة من قبل الانظمة السابقة .
تعهدات اربكت بعض الثوار الحقيقتين وشتت بعض الانظار عن التغيير الجذري الذي يجب ان تصل اليه الثورة بعد تلك التضحيات الجسام ، وقد ساهمت ابواق الانظمة المتهاوية وبرغماتية بعض “الزعماء الجدد” وارتباطات بعضهم الاخر بشبكة النظام السابق في الترويج لضرورة تقديم تلك التعهدات وفي صناعة الخوف والرعب من التغيير الجذري وادارة الظهر لعلاقات الانظمة السابقة مع الدول الاستعمارية ، ففشل الثورة وتحلل الدولة والحرب الاهلية والاقتتال وانهيار الاقتصاد وتهديد السلم العالمي واستقرار المنطقة مخاطر على الابواب ان لم تقدم تلك التعهدات والالتزامات .
فقد بلغ التهويل ومحاولة الاقناع بضرورة تلك التعهدات مبلغا قد يتصور معه انه لا وجود لدولة إلا عبر تقديم فروض الطاعة ” للنظام الدولي” والتعهد للعالم بعدم تهديد اي مصلحة لأي دولة وإتباع اسلوب عيش يتناسب مع اسلوب الدول الاخرى ولا يتعارض مع قيمها ونظرتها للحياة والمجتمع ، وجاءت تعهدات “الزعماء الجدد” لترسخ ذلك المنطق الاعوج .
وبذلك المنطق التهويلي الاعوج كان لابد لمرشح الرئاسة الامريكي ونحن في ظل الحملة الانتخابية للرئاسة الامريكية ان يقدم الضمانات والتعهدات للعالم والمجتمع الدولي ولدول الربيع العربي والعالم الاسلامي بشكل خاص -كاحد اهم مصدر للطاقة والثروات التي تؤثر في الاستقرار الاقتصادي والسياسي للعالم-،ففي ظل ذلك المنطق واسوة ب”الزعماء لجدد” على المرشح الامريكي للرئاسة ان يحمل برنامجه الانتخابي تلك التعهدات والضمانات .
وعلى المرشح الامريكي بحسب ذلك المنطق الذي سار عليه ” الزعماء الجدد” ان يبدأ حملته الانتخابية بقوله :” أتعهد ان لا تشكل الولايات المتحدة الامريكية تهديدا للسلم العالمي ، من خلال التزامي بالعمل على تقسيم الولايات المتحدة الى بضع وخمسين دولة مستقلة حتى لا تعود امريكا دولة قوية تهيمن على العالم وتسيطر على الامم الاخرى ، وسيكون لكل دولة علم خاص يسمى علم الاستقلال ، وسيزين علم دولة واشنطن هلال اخضر ليكون عنوان للتفاهم ورمزا للتسامح مع الشعوب التي قهرت تحت ظل العلم القديم في افغانستان والعراق وغيرها من الدول ، وأتعهد بتفكيك السلاح النووي حتى لا تتكرر المأساة التي ارتكبتها جيوشنا في هيروشيما ونكازاكي ، وسنسمح لتونس ومصر وقطر والسعودية وليبيا وغيرهم من الدول بإقامة قواعد عسكرية ثابتة على اراضينا لضمان الاستقرار في المنطقة، ومنع اي محاولة لإحياء الامبراطورية الامريكية ، وسندعم جمعيات تحفيظ القران الكريم ونشر تعاليم الاسلام السمحة في اطار تمكين مؤسسات المجتمع المدني ، وسنغير المناهج الدراسية لتتلاءم مع القيم الاسلامية والانفتاح على الاخر ، وسنضبط لباس المرأة لتلتزم باللباس الساتر حفاظا على مشاعر المسلمين الزائرين لبلادنا ..”.
وقد يضيف المرشح الامريكي لتعهداته ليطمأن العالم على شكل النظام وعلاقاته مع العالم فيقول:”سأعمل على تغيير النظام الجمهوري وتحوليه الى نظام ” الخلافة الإسلامية” حتى لا تتحكم الشركات الرأسمالية في النظام الاقتصادي وتستغل الشعوب الفقيرة ، وأتعهد ان يكون نائب الرئيس مسلما للمحافظة على حقوق الاقليات ودورهم في بناء المجتمع ، وأتعهد بتمكين الشركات الخليجية وغيرها من شركات النفط من استخراج النفط وتصنيعه من حقول النفط في تكساس حتى لا تحتكر الشركات الامريكية الانتاج فتتحكم في اسعار النفط ..، وستكون قناة بنما شاهدة على سلاسة الحركة التجارية وإزالة كل العوائق امام المنتجات العالمية لتصل للمستهلك الامريكي “.
ولإثبات صدق توجهاته قد يصرح مرشح الرئاسة الامريكي فيقول :” سأرسل وفدا من الكونغرس الامريكي يمثل الاغلبية لزيارة البرلمان المصري والتونسي وغيرهما من المجالس النيابية ليشرح صدق نوايا وتوجهات وتعهدات الرئاسة الامريكية اعلاه ، وسنضع على جدول اولوياتنا زيارات دورية لوزراء خارجية مصر وتونس وليبيا وقطر للاجتماع مع هيئة الاركان الامريكية أو ” المجلس العسكري الامريكي ” لوضع الخطط الامنية الكفيلة بحفظ مصالح تلك الدول في بلادنا ،وسنضمن كامل الحق لسفراء تلك الدول في الاطلاع ومتابعة تعهداتنا السابقة “.
وقد يتوجه مرشح الرئاسة الامريكي بعد تلك التعهدات لشعبه فيقول : ” ان الالتزام بتلك التعهدات هو مصلحة حيوية للشعب الامريكي ، وان عدم الالتزام بها يشكل تهديدا وجوديا للأمة الامريكية ، وكبادرة حسن نية مع الشعوب الاسلامية التي حاربنها عقودا سنطبق الشريعة الاسلامية،…لكنني اتعهد لكم بالتدرج في تطبيق الديمقراطية التي تؤمنون بها، الى ان تنضج الظروف المحلية والدولية المحيطة التي تسمح بتطبيق الديمقراطية كنظام وأسلوب حياة ، فتطبيق الديمقراطية الان يعيد للأذهان ذكريات افغانستان والعراق …وغوانتاناموا ..وأبو غريب وغيرها، ولنطلق عليها تسمية الشورى حتى لا تثير النزاعات الطائفية ” .
هكذا …. نعم هكذا وبهذا السخف سيبدو خطاب المرشح الامريكي للرئاسة ان احتكم لذلك المنطق الغريب الذي روج له كل من قدم تلك التعهدات وكل من حاول ان يقنع شعبه بضرورة تقديمها والالتزام بها ، فمرشح الرئاسة الامريكي لا يسعى بحال من الاحوال الى استرضاء شعوب غير الشعب الامريكي ولا يضع في اعتباراته غير المصلحة الامريكية ولا يرى في طمأنة اي احد فريضة عليه ، سوى طمأنة وتامين مصالح الناخب الامريكي ومستقبله ،ولا يعبأ بأي امة اخرى في رحلة خدمة الشعب الامريكي والسهر على مصالحه .
هنا …وتحت هذا الاختبار البسيط الذي يفرز المنحاز لمصالح امته عن غيره من الذين اختاروا السير في ركاب الانظمة السابقة…هنا تسقط أعذار كل الاطياف التي تنادي بضرورة الالتزام بتعهدات الانظمة السابقة وطمأنة الغرب والشرق على مصالحهم في بلادنا ، تسقط كل تلك الاطياف وان اختبأت تحت مسميات العلمانية أو الوطنية أو الديمقراطية أو اليسارية أو حتى الاسلامية المعتدلة ، فكل تلك المسميات تصبح اداة أو امتدادا للأنظمة السابقة التي كانت تستمد شريعة وجودها من ارتباطها بالغرب ومحافظتها على المعاهدات الدولية وسهرها على مصالح الدول الاستعمارية في بلادنا تحت مسميات ” السلام والاستقرار العالمي ومكافحة الارهاب ” .
إلا ان بعض السباقين لأداء قسم “مزاولة مهنة الزعامة بعد الثورة ” قد يرجع حرص مرشح الرئاسة الامريكي على مصالح دولته فقط ، وعدم تقديمه اي ضمانات للعالم الى كون الولايات المتحدة الامريكية هي الدولة الاولى في العالم ، ويسقط ذلك العذر قبيح امام حقيقة ان كل دولة مهما كانت صغيرة ، وكل قيادة مخلصة مهما قلت امكانياتها لا تحرص الا على مصلحة شعبها .
فالشعوب التي كسرت حواجز الخوف وتسعى للتخلص من حياة العبيد التي عاشتها في ظل تلك الانظمة البائدة ، ستلتف حول قيادة تريد الانعتاق من التبعية والذل ، واسترداد ثروات الامة المنهوبة ، وتلك الاعذار والتعهدات تتناقض مع جوهر الثورة وتلتقي مع منطق التبعية وإلحاق الشعوب بمنظومة العبودية من جديد عبر الالتزام بما خط في زمن الاستعمار بأيدي أتباعه فمطالبة العلمانيين واليساريين بضرورة اعطاء التعهدات والالتزام بشكل الدولة حتى يرضي الغرب اعلان حرب على الثورة وشوق الشعوب للانعتاق نهائيا من العبودية للغرب ، ومحاولة لتكبيل ارداة الثوار في التغيير الجذري .
ارادة تسعى حركات ” الاسلام المعتدل” من طرفها ان تكبلها عبر تقديمها لنفس التعهدات ، وبذلك فإنها تضيف لتناقضها مع ارداة الشعوب في الانعتاق التام من التبعية للغرب تناقضا صريحا مع ما تعتقد من عقائد ومع ما تحمل من ثقافة تملى عليها ان النصر يكون حليف امة الاسلام فقط ان هي التزمت اسلامها نظاما ومنهاج حياة ، وتوجهت لخالقها بالانصياع لأوامره وتطبيق شريعته ، ومعارك بدر وحنين واليرموك والقادسية وغيرها الكثير ، تحمل دورسا لطالما تغنت بها حناجر بعض ” الزعماء الجدد” ، فالنصر والتمكين عند الامة الاسلامية له معادلة مختلفة لا تمر عبر الاتفاقيات الدولية ولا تعبأ بالتوازن العددي بقدر ما تعبأ بنصر الحق والثبات على المبدأ.
فالثبات على المبدأ كفيل بتحقيق النهضة والنصر ، والارتماء في احضان المستعمرين والعمل على طمأنتهم وتأمين مصالحهم لن يجلب للأمة الاسلامية إلا مزيدا من التبعية والارتهان للغرب والشرق ، فلا بد للأمة الاسلامية وهي على طريق استعادة سلطانها وإرادتها التي سلبت ان تدرك ان النهضة لن تكون إلا بقلع جذور الاستعمار من بلادنا ، وتطبيق الاسلام جملا وتفصيلا والتعهد لخالقها فقط بإقامة دولة الخلافة التي توحد المسلمين في دولة واحدة تكون ثمرة الربيع العربي وحصاد التضحيات الاليمة لشباب الامة في ميادين التحرير، و بذلك تفعل مشروعها النهضوي وتحمل الاسلام رسالة نور للعالم ، وما لم يتم ذلك التغيير الجذري والانعتاق التام ،،
فالثورة يجب ان تستمر …