إيران وحرب الاستنزاف ، بقلم : حسين الشيخ
من الواضح أنّ إيران تعيش اليوم أسوأ مرحلة تاريخية منذ تأسيس نظامها القائم على حكم المرشد منذ ما يقارب الأربعين عاماً.
ولكن اللافت للنظر في استراتيجية الحرب ضد طهران ومشروعها المزعزع للأمن والاستقرار في المنطقة تسير وفق قاعدة الهرم المقلوب، فإذا كانت الحرب التقليدية تقوم على المواجهة العسكرية المباشرة التي تليها حروب استنزاف لطمس معالم القوة الثانوية التي قد تتجاوزها الحرب المباشرة، فإنّ إيران اليوم تواجه حرب استنزافٍ ترهقها أكثر بكثير من الصدام المباشر وإنْ حاولت تسويق الأمر على أنه مجرد محاولاتٍ يائسةٍ، ولكنّ الحقيقة تكمن في أنّ هذه الحرب المستعرة على ثلاثة أصعدة تنهكها لتسير على طريق الموت البطيء، والتي تتمثل فيما يلي:
أولاً: الصعيد السياسي: لطالما تبجحت إيران في سيطرتها على ثلاثة عواصم عربية تعدّها منطقة نفوذٍ مطلقٍ لها ولمشروعها الطائفي، ولكنّ الواضح اليوم أنّ هذه العواصم بدأت مسيرة لفظ التغلغل الإيراني خارج دائرة القرار السياسي الداخلي لتلك العواصم، ففي العراق بدأ صوت التيار الوطني والشعبي الداعي إلى التخلص من التدخل الإيراني في شؤون البلاد يتضح يوماً بعد يوم، فسياسة رئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” القائمة على تقليم أظفار طهران وتحجيم مليشياتها ليست إلا سياسة قائمة على الدعم من المجتمع الدولي والعربي، وإلا لكانت حكومته قد لفظت أنفاسها في ظل الفوضى التي تترأسها مليشيا الحشد المدعومة إيرانياً وعدم استناد الكاظمي إلى كتلة سياسية وبرلمانية، يضاف إلى ذلك الأزمة السياسية التي تعيشها إيران على الساحة السورية بمواجهة النفوذ الروسي الذي بدأ بسحب البساط من تحت إيران في دمشق، أما لبنان فإنّ مليشيا حزب الله باتت في زاوية الارتباك والتخلخل في ظل عجزها عن استعادة الشارع في صفها من جهة، وخفوت صوتها في ظل رفض المجتمع الدولي المساهمة في حلحلة الأزمة اللبنانية طالما يسيطر “حزب الله” على القرار السياسي، مما جعلها تدخل خانة الركود الحذر منتظرة ومتحسبة لأي تحرك شعبي أو دولي يقضي بإنهاء وجودها.
ثانياً: الصعيد الاقتصادي: اللافت على هذا الصعيد هو أنّ الحرب الاقتصادية على “طهران” لا تقتصر على العقوبات الاقتصادية التي تعد الأشد من نوعها ضد إيران فحسب، بل إنها عملت على تكسير أجنحة إيران بسلبها الكثير من الأوراق التي كانت تراوغ فيها من أجل كسر الحصار وتجاوز العقوبات، فلم تغادر العقوبات شخصية عسكرية أو سياسية وحتى مدنية تحاول الالتفاف على العقوبات، كما أنّ الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل إنّ مواجهة الشبكات والخلايا الخارجية التي تعتمد عليها إيران في هذا المجال هي تحت الضرب المباشر من خلال متابعة الشبكات التابعة للمليشيات الموالية لإيران مثل “حزب الله” اللبناني وأذرعه التي تعمل على الاتجار بالمخدرات والتهريب والمتاجرة بالقطع الأثرية كبديل للدعم الإيراني العاجز عن تمويلها كما كان من جهة ولرفد الاقتصاد الإيراني من جهة أخرى، كما أنّ روسيا حجمت الدور الإيراني في سوريا ولا سيما من حيث تقليص الحواجز الأمنية التي كانت تحت سيطرة إيران أو المليشيات التابعة لها في سوريا، مستغلة ذلك بالابتزاز من أجل جمع المال من المواطنين أو الفعاليات التجارية والاقتصادية التي تعبر تلك الحواجز، بالإضافة إلى ضرب الطريق البري الذي يصل بين القوات الإيرانية في العراق وسوريا من خلال سيطرة روسيا على معبر البوكمال السوري على الحدود العراقية على حساب السيطرة الإيرانية التي انسحبت منه منذ يومين، مما أفقدها طريقاً عسكرياً واقتصادياً متمثلاً بالتهريب بين البلدين.
ثالثاً: على الصعيد العسكري: أما المواجهة على هذا الصعيد فهي لم تتخذ سمة المواجهة المباشرة بعد، إذ اتخذت منحيين؛ الأول على شكل ضربات خاطفة تنفذها إسرائيل ضد إيران ومليشياتها بوتيرةٍ شبه مستمرّةٍ تتسم بالقوة والدقة على كافة التراب السوري من محافظة درعا في الجنوب الغربي وحتى محافظة دير الزور في الشمال الشرقي، الأمر الذي كبّل الوجود الإيراني على الأرض وحرمه من التمتع بالاستقرار ولو لليلة واحدة، أما المنحى الثاني فاتخذ سمة الاغتيالات التي تطال الشخصيات الإيرانية العسكرية والعلمية التي لها صلة مباشرة بالنظام الإيراني السياسي والعسكري أو النظام التسليحي، فلم تكن عملية اغتيال “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس على يد القوات الأمريكية في العراق إلا البداية، لتتسع الدائرة وتدخل إسرائيل على خط حرب الاغتيالات – بحسب الاتهامات الإيرانية – باغتيال “محسن فخري زاده” في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم؛ العالم النووي الذي يعد الأب الروحي للبرنامج النووي الإيراني، وما تمخضت عنه هذه العملية من فضح هشاشة الاستخبارات الإيرانية وسهولة تخطي إجراءاتها الأمنية، مما أفزع إيران أو أنْ تكون الاستخبارات الإيرانية متورطة ومخترَقة من قبل الاستخبارات الدولية مما يفزع إيران أكثر، وهي تواجه حرباً باردة لا تستطيع المشاركة فيها، ليقتصر دورها على تلقي الضربات فحسب.
كل ذلك لا يجعل الوضع بالنسبة لإيران مجرد أزمة سياسية أو اقتصادية أو حتى أمنية، بل هي في حقيقة الأمر تعيش حالة حربٍ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حرب تبدو فيها إيران الطرف الأضعف الذي وإنْ كانت بيده بعض الأوراق المهمة، إلا أنها لا قبل لها في مواجهة حرب استنزاف كبرى كالرمال المتحركة التي كلما حاولت الخروج منها غاصت أكثر فأكثر حتى تبتلعها، أو أنْ تمدّ يدها لحبل السلام والاستقرار الذي يتطلب من طهران تنازلات تضمن اعتدال سلوكها حيال المشهد السياسي الإقليمي والعالمي.