الفلسطينيون والجبهة الثالثة بقلم : نبيل عمرو
فُتحت في فلسطين عدة جبهات أرهقت شعبها: الجبهة الرئيسية بالطبع هي جبهة الاحتلال الإسرائيلي التي اتسعت لتشمل فلسطين كلها، بحيث أزالت الحدود والقيود التي فُرضت على الإسرائيليين زمن شهر عسل أوسلو، فلم يعد من وجود لذلك التصنيف الذي اعتمد واستقر A B C، والذي كانت فيه A منطقة خالصة للسلطة، وB مزدوجة، وC خالصة للإسرائيليين.
ورغم بؤس ومثالب هذا التصنيف فإن بديله الراهن هو احتلال كامل واستباحة بلا حدود، وخصوصاً للمنطقة A؛ حيث تتركز قيادة السلطة والمؤسسات التابعة لها. ولا يحلو للإسرائيليين هذه الأيام إلا اقتحام هذه المنطقة، كي تبدو السلطة أمام جمهورها عاجزة عديمة الحيلة، وهذا ما يفقدها أهم أسباب احترام الناس لها، وهو الهيبة.
والى جانب الاحتلال الإسرائيلي المركب؛ عسكرياً وأمنياً واقتصادياً واستيطانياً، جاء احتلال «كورونا» ليهبط بالإمكانيات الفلسطينية المحدودة أصلاً، إلى حدود أدنى، فلا مداخيل منتظمة، ولا قدرة للبنوك على مواصلة الإقراض إلى أمد بعيد، ولا وجود لذلك السخاء القديم الذي كان يتدفق من الدول المانحة كلما تعرض الفلسطينيون إلى ضائقة مالية تعيق تقدم المشروع السياسي.
ومنذ الإعلان عن قطع العلاقات مع إسرائيل بفعل «صفقة القرن» وموضوع الضم، انشغل العالم عنهم، وصارت غزة مثلاً في حالة انتظار للتنقيط القطري في حلقها، وصارت السلطة في الضفة تستقبل بصورة متقطعة ومتباعدة تنقيطاً خيرياً لا يكفي لتغطية مصاريف أسبوع واحد من أسابيع «كورونا» المستجدة؛ حيث موجتها الثانية تتواصل، والقدرات الفعالة على احتوائها تتناقص.
جبهة الاحتلال وجبهة «كورونا» وما تحدثانه من أزمات اقتصادية ومالية – ودعونا الآن من السياسية – خلقتا جبهة ثالثة هي الأكثر مدعاة للخوف والقلق، هي جبهة الانفلات الأمني المرتبطة جدلياً بواقع تراجع مكانة ونفوذ وهيبة السلطة بين الناس. نشوء هذه الجبهة هو وقوع الملايين الفلسطينية بين شقي رحى، شق يجسده الاحتلال الذي ازدادت شهيته لفرض نفوذه عبر الضم الذي إن تأجل بفعل عوامل نعرفها فإنه لا يزال على رأس الأجندة في إسرائيل، ولا ضمانات على الدولة العبرية من ألا تتمادى نحو ما هو أكثر من الثلاثين في المائة التي حددتها خريطة «صفقة القرن»، ذلك أن النهج الإسرائيلي الزاحف على الأرض وعلى الناس يعلن صراحة أن السبعين في المائة المفترض أنها حصة الفلسطينيين ستبقى، وإلى ما لا نهاية، تحت النفوذ المباشر والموضوعي للدولة العبرية.
أما شق الرحى الآخر فهو انسداد كل الآفاق التي كانت تمني الفلسطينيين بحل، إن لم يكن عادلاً فهو معقول. هذه الآفاق التي كانت في زمن شهر عسل أوسلو مفتوحة، ولو بالتمني والتوقع، صارت مغلقة بإحكام، وعلى نحو لا يسمح لأكثر المتفائلين تفاؤلاً بمجرد توقع أي قدر من انفتاح سياسي.
من قبيل قصر النظر والسذاجة المفرطة، ألا يتوقع المتابعون من داخل الحالة الفلسطينية ومن خارجها تأثيراً سلبياً مباشراً على حياة الفرد والعائلة والمجتمع جراء هذه الانسدادات الشاملة. وفي حالة كهذه تبدأ الظواهر السلبية في التفشي، وأولها وربما أخطرها التحلل والانفلات الأمني، واللجوء إلى البحث عن حمايات أو حلول بعيداً عن القانون والسلطة.
إنها بالفعل جبهة ثالثة انفتحت، أو أنها في سبيلها إلى انفتاح أوسع، ولا يعالجها القول إنها من صنع الاحتلال، وحتى لو كانت كذلك – مع أن الاحتلال أشد أذى وأعمق بلاء – فإن مسؤولية مواجهة هذه الجبهة تقع أولاً وأخيراً على عاتق السلطة، ولا تكون من خلال إنكارها أو تزوير دوافعها وإخفاء آثارها؛ بل تكون بجهد جماعي فلسطيني، تنظمه وتقوده مؤسسات حقيقية يحترمها الشعب والعالم، وتكون قادرة على إخضاع الأزمات، وإنتاج السياسات الكفيلة بالتغلب عليها. هذا أمر غير موجود الآن، وإن لم يوجد وعلى جناح السرعة ولم يحظَ بمكانة الأولوية، فلا أمل في مواجهة ناجحة للأزمات، صغيرها مثل كبيرها.