السهم الأخير في جعبة أوسلو بقلم : نبيل عمرو
الحديث هنا ليس عن الشعب الفلسطيني وما هو متوفر لديه من إمكانات، سواء داخل إسرائيل أو في مناطق الضفة والقدس وغزة، أو في الشتات.
ذلك لأن القضية الفلسطينية صارت ظاهرة أوسع من أن تكون مجرد قوة سياسية واقتصادية.
ومحصلة هذه الظاهرة أنها باقية على قيد الحياة رغم انعدام التوازن الدائم بين قوتها وقوة من يحاربونها، وإذا كانت هذه الظاهرة لم تنجح في تحقيق هدفها المركزي، وهو إقامة دولة حقيقية على الأرض، فإنها نجحت بامتياز فوق نجاحها البدهي بالبقاء على قيد الحياة، في أن خلقت لخصومها، وأولهم إسرائيل، معضلة لا حل لها، إذ صارت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للدولة العبرية رغم هروب ساسة هذه الدولة من هذه الحقيقة إلى افتعالات وتضخيمات متعددة لقضايا موازية أو بديلة.
حديثي إذن هو عن الطبقة السياسية التي تقود الحالة الفلسطينية تحت أسماء عدة، وأبرز خصائص هذه الطبقة هو الجمود المغلف بشرعيات بالغة الأهمية، والعجز عن الفعل المغلف بأردية شعارية وكلامية، والتشبث بالصيغة التي فرضت على الشعب الفلسطيني أن يصل تحتها إلى أسوأ ما وصل إليه في مسيرة كفاحه الوطني، التي إن أُرّخ لها في حقبة مواجهة الاستعمار والصهيونية فقد اقتربت بعمرها من القرن.
ولأنني بصدد مقالة لا بحث؛ فإنني سأعالج الوضع الراهن وكيفية إدارة العمل في مواجهة وقائعه وتطوراته.
الطبقة السياسية الفلسطينية تواجه الآن خطر تطوير الاحتلال وفق صيغة تحايلية تجسدها صفقة القرن، أو بتعبير أدق الطريقة الإسرائيلية في توظيف هذه الصفقة فكيف تتم المواجهة؟
بقراءة للسياسة الفلسطينية الراهنة، فإننا نلحظ توجهاً نمطياً لا تجديد فيه…
دعوة وزراء الخارجية العرب إلى اجتماع طارئ للبحث في الأمر، ثم التوجه إلى المؤسسات الدولية جميعاً وعلى رأسها الأمم المتحدة (الجمعية العامة ومجلس الأمن)، وهذا توجه دائم، إن تعددت جولاته فالنتيجة واحدة… بيان، إذا كان عربياً فالذي يصوغه الفلسطينيون، وإذا كان دولياً فالذي يصوغه العرب، وإذا كان من مجلس الأمن فلكي يمر تتولى دبلوماسية الفيتو الأميركي تحويله من سياسي إلى وعظي… وهكذا.
وهذا التوجه وإن كان لا بد منه فإنه صار مملاً ومحرجاً حين تضطر الطبقة السياسية الفلسطينية إلى الإجابة عن سؤال ماذا أنتم فاعلون؟
أما التوجه الآخر الذي يوشك أن يكون نمطياً أيضاً فيتجسد في تهديد الطبقة السياسية بالتحلل من الاتفاقات المبرمة مع الأميركيين والإسرائيليين، والأهم هنا والأكثر تأثيراً هو تلك الاتفاقات التي تمت مع الإسرائيليين خاصة، والتي أنجبت فيما أنجبت السلطة الوطنية كمرحلة من مراحل مشروع سياسي مدعوم دولياً عنوانه إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والذي سيفضي حتماً إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.
مع مرور سنوات طويلة على اتفاقات وتفاهمات أوسلو، بدا جلياً للمراقب المحايد والموضوعي أن الذي تخلى عن كل هذه الاتفاقات والتفاهمات هم الإسرائيليون، الذين أخذوا من هذه الاتفاقات ما يعزز مصالحهم الأمنية والاقتصادية وألقوا في سلة المهملات ما يوفر للفلسطينيين مجالاً للتقدم نحو استقلالهم وإقامة دولتهم.
منذ قدوم الليكود إلى السلطة في إسرائيل وحتى يومنا هذا، فليس للناطقين الفلسطينيين من قول سوى سرد القرائن الدامغة على أن الحكومة الإسرائيلية، هي من ألغى عملياً الاتفاقات والتفاهمات من دون أن تعلن عن ذلك؛ والسبب خوفها من أن تتعرض للوم والإحراج من قبل مؤسسي أوسلو ورعاة بقاياه.
الرئيس عباس يهدد بإطلاق سهم التحرر من الاتفاقات التي تحللت منها إسرائيل أصلاً، وفي شأن العلاقة مع الدولة العبرية في زمن البقايا القليلة من أوسلو، فإن ما بقي للفلسطينيين من أمور يمكن التحلل منها ولها تأثير فعلي على الأرض أمران لا ثالث لهما، وما عداهما فهو شأن معنوي لا تكترث إسرائيل به كسحب الاعتراف بها، إذ لا يعجبها أساساً اعتراف أوسلو، وتريد اعترافاً أفدح ليس بها وبحدودها الآمنة والمعترف بها وإنما بيهودية الدولة.
الاثنان اللذان لا ثالث لهما… التنسيق الأمني الذي كان ولزمن طويل مقدساً وفق تعريف الرئيس الفلسطيني له، والثاني هو اتفاق باريس الذي يمنح إسرائيل إمكانات هائلة للسيطرة على الاقتصاد الفلسطيني بفرض أسقف منخفضة على مداخله ومخارجه، ما حدّ من استقلاله النسبي ولو بالحدود الدنيا.
ما أعلنه الرئيس الفلسطيني كرد على الضم يمثل في واقع الأمر السهم الأخير في جعبة أوسلو.
السيطرة الإسرائيلية الأمنية من خلال استباحة مناطق السلطة، كما لو أنها واقعة تحت احتلال رسمي، والسيطرة الاقتصادية التي اختبرتها الحكومات الفلسطينية المتعاقبة وتوصلت إلى استحالة التحرر منها، ستكون مجال اختبار جديد لقدرات السلطة على إلغاء الاتفاقات وكذلك لقدراتها على تجسيد الإلغاء بحقائق على الأرض ومجابهة ردود الفعل الإسرائيلية.
من جهته لا يملك الرئيس عباس إلا أن يهدد بإطلاق هذا السهم، ولعله يراهن على أن يحدث هزة دولية تردع أميركا وإسرائيل عن المضي قدماً في إجراءات الضم، وهذا أمر إن كان مؤكد الحدوث لو تم في السنوات الأولى لمشروع أوسلو حين كان مشروعاً دولياً بامتياز، فيتعين عدم الإسراف في تعليق الآمال على هذه الهزة في مرحلة الاحتضار الأخير لمشروع أوسلو والولادة القسرية لمشروع صفقة القرن.
لا خوف على القضية الفلسطينية، لأن الخوف كان وما يزال على الحل، وإذا ما ضمت إسرائيل ما ترغب في ضمه، وألغى الرئيس عباس ما وعد بإلغائه، فالمؤكد أن تتقوض فرص الحل المنشود لتنفتح فرص جديدة لتواصل الصراع واللاحل.
أخيراً… إن احتمالات تريث إسرائيل في الضم ما تزال قائمة واحتمالات أن يطلب الأميركيون منها التريث هي كذلك، إلا أن الحقيقة الأكثر أهمية من الضم، هي أن الاحتلال الشامل سيظل قائماً، وأن معادلته الجديدة ستكون احتلالاً، وفوقه ضم لا لزوم له، إلا إذا كان الهدف هو توفير مزيد من الفرص لبقاء نتنياهو وائتلافه على رأس السلطة في إسرائيل، وإعادة انتخاب ترمب للمرة الثانية وفق سيناريو المرة الأولى.