” دحلان ” والمشهد السياسي اليوم : النضج والرؤية وكاريزما القيادة! بقلم : د. أحمد يوسف
بعد الإفطار الجماعي الكبير الذي أعدته حركة فتح – ساحة غزة في مطعم البادية، بدا واضحاً أن التيار الإصلاحي غدا له مساحة واسعة ولافتة للنظر من الحظوة والقبول، حيث شارك اللقاء أكثر من مئة شخصية من الكتَّاب والإعلاميين والشخصيات الاعتبارية.
بعد الإفطار، كانت كلمة النائب محمد دحلان، والذي تحدث بتلقائية ابن المخيم والقائد الذي تصل مفردات نبراته إلى القلوب. بدا شاباً رغم أنه بلغ الستين من عمره، وتحدث بروح الفتى وحيوية القائد المخلِّص، وأظن أن كلمته التي استمرت أكثر من نصف ساعة قد لامست أفئدة جميع ممن حضروا اللقاء، وأنا منهم.
حاول دحلان السياسي في تناوله لصفقة القرن ومؤتمر البحرين أن يبين أنه كان من أوائل من انتقدوا الصفقة وعارضوا المؤتمر، وحذر من أن الصفقة قد تضر الوضع إذا ما استمر الانقسام، وإن القوة الوحيدة بأيدينا لإفشال هذه الصفقة هي وحدة الموقف الفلسطيني، واجتماع مواقف كل من بأيدهم السلطة من حركتي فتح وحماس، وحشد الجهد والإمكانيات في حكومة وحدة تمثل الكل الفلسطيني، والتي سيكون التيار الإصلاحي داعماً لها وعامل إنجاحٍ وتمكين لحراكها في قيادة الشارع، وتوجيه بوصلته الوطنية.
إن الشيء الذي يلمسه المستمع لكلام دحلان أنه أمام شخصٍ ابن بلد، يسكن فيه الوطن، ويتحرك في شرايينه ويردك بابتسامته وعفويته إلى أخلاق المخيم الذي نشأ فيه وترعرع، وكابد فيه كل صور الفقر والجوع والحرمان.. لا تشعر في الرجل مكابرة أو فشخرة واستعلاء أو أنه ارستقراطي ولد وفي فمه ملعقة ذهب، بل إنسان قريب إلى القلب واللسان، وابن أسرة بسيطة عاشت كغيرها من اللاجئين تأكل من خشاش الأرض في حواري المخيم؛ المخيم الذي عرفناه حاضنة أمن وأمان عندما كنا نفترش الأرض ونلتحف السماء.
يحدثك الأخ دحلان (أبو فادي) عن شبابه وعن الفتونة ونزق تلك المرحلة من العمر، يقول لك أخطأنا وكان هناك الكثير من الطيش والخصومة، ولكننا اليوم كبرنا، صهرتنا التجربة وعلمتنا الأيام والسنوات المريرة من الخلافات والصراع، والتي أضعفتنا جميعاً، وأضرَّت بمشروعنا الوطني، وجرَّأت علينا من كان يهابنا ويخشى بأسنا ويرتعب لغضبتنا.
اليوم، في مشهد الحكم والسياسة غاب الرجل الرشيد وافتقدنا القيادة الحكيمة، فلم يعد هناك ياسر عرفات وأحمد ياسين، فالأول كان زعيماً احتضن الجميع، وكان الأب صاحب القلب الكبير الذي استوعب الكل الفلسطيني، حيث قدَّره الجميع وإن اختلف بعضهم معه، ولكنههم عملوا إلى جانبه وكان مشكاة وطن، كما أن شيخنا أحمد ياسين (رحمه الله) كان هو الآخر يهيئ الساحة النضالية ليتكامل مشروعنا الوطني ويتوازن باجتماع الصف والتئام البيت الفلسطيني.
لم أشهد في لغة دحلان تطرفاً في الخطاب، حتى لمن أساء إليه في قيادة السلطة الفلسطينية، فلم يَفجر معهم في الخصومة، بل تمني لهم أن الخير والصلاح، وأن يتحقق اللقاء بينهم وبين إخوانهم في حركة حماس والجهاد الإسلامي.
بصراحة، ظهر الأخ دحلان بأنه الرجل الذي يمكن أن يكون قاطرة وهمزة وصل ورأس جسرٍ يجمع بين اخوانه في حركتي فتح وحماس وباقي مكونات الكل الفلسطيني، وقد أشار إلى الجهد الذي بذله منذ سنتين لتمهيد طريق حركة حماس باتجاه الشقيقة مصر، وهو يمد يده لكل إخوانه في الحركة الوطنية والإسلامية، ويأمل أن يكون صاحب بصمة و”فاعل خير” لأن يلتقي الجميع في قطاع غزة، ليتدبروا أمرهم، ويعملوا معاً على مواجهة المخاطر والتحديات.
لقد كنت أنصت وأنظر في وجوه الآخرين، محاولاً قراءة ما بين سطور الكلمات العابرة التي ألقاها، وقد تأثرت كغيري بعفوية المشاعر والأحاسيس التي كان يعبر عنها تجاه ابناء شعبه في قطاع غزة، وأنه سعيد أن يكون خادماً لهم، وهو ليس متعجلاً للسلطة، ولا طامعاً فيها، ولكنَّ حقه كأحد أبناء هذا الوطن أن يشارك في أي انتخابات قادمة تمنحه الفرصة كغيره لاستمرار مسيرته في خدمة وطنه وشعبه الكريم.
نعم؛ يقود النائب دحلان اليوم تياراً إصلاحياً ديمقراطياً في حركة فتح، ويتكلم بلغة فيها الكثير من النضج والعفوية، ويتجنب بقدر المستطاع صيغ التهجم أو الاستخفاف بالآخر، كما أن نبرته كانت تتعالى بأدب في السياق الوطني.
اعتقد أن من شاهده في تلك الاحتفالية، ونحَّى بعيداً احتقانات “شنآن قوم” واعتبارات الحزبية، وحكم بعدل وإنصاف، فسيجد أن دحلان رجل متصالح مع نفسه، وهو اليوم في نظر الشباب مشروع قائد يتعلقون به؛ لأنه بالنسبة لهم هو الشخص الذي يعيش همَّهم الحياتي، والرائد الذي يجسد تطلعاتهم الوطنية.
إن الحالة التي عليها اليوم حركة فتح، من حيث تراجع حظوظ التيار الفتحاوي الذي يمثل السلطة، والذي لم يعد له عملياً أي أثر أو تأثير في قطاع غزة، بسبب الإجراءات التعسفية الظالمة التي تقوم بها السلطة تجاه موظفي القطاع، وتراجع مواقفها التي تخرج في أغلبها عن السياق الوطني، مقابل حركيِّة التيار الإصلاحي وحيوية حضوره في القطاعين الشبابي والعمل الخيري، الأمر الذي أهله للتمتع بقاعدة شعبية ونخبوية عريضة باتت تتجذر وتفرض نفسها في المشهد النضالي؛ باعتبارها مستقبل حركة فتح، وإن كهنة المعبد التاريخي لتلك الحركة داخل جدران السلطة الفلسطينية سوف تتجاوزهم الأيام وتطوبهم هبَّات رياحها الوطنية، وسيرث هذا التيار الإصلاحي الديمقراطي الخريطة التنظيمية والحركيِّة لفتح، ولكن برؤية وطنية أبوابها مشرعة للعمل مع الجميع ضمن المبادئ والمفاهيم التي تفرضها متطلبات الشراكة السياسية والتوافق الوطني.
في الحقيقة، إن حال دحلان اليوم مع حركة فتح يذكرني بتلك المقولة المعبرة للشاعر أبو الطيب المتنبي: وإذا ترحَّلت عن قومٍ وقد قدروا ألا تفارقهم فالرَّاحلون همو.
للأسف، لقد غابت روح حركة فتح في خطاب قياداتها التاريخية، والتي تحول الكثير منهم إلى سحيِّجة وأرزقية كسحرة آل فرعون، لا همَّ لهم إلا المال وطلب الأجر!!
أسفي على حركة فتح؛ الرصاصة الأولى وأم الجماهير، وسنديانة العمل الوطني لعقود طويلة؛ لأنها اتبعت “السامري” وأضاعت بوصلتها النضالية، وتاهت تغرد بعيداً عن الإجماع الوطني.
اليوم، نحن نتساءل كغيرنا: تُرى هل يُشكل التيار الإصلاحي طوقاً للخلاص داخل حركة فتح؟ وهل يكون مناضلوه عند حُسن الظن بهم، وأن يمدوا ساحة العمل الوطني بأفكار جديدة تعكس رؤية قادته وطاقة كوادره بما لم يؤتِ به جيل الأوائل؟ لعل وعسى!!
من خلال معرفتي بالكثير من قيادات وكوادر هذا التيار الإصلاحي أتفهم أن هناك الكثير مما هو مطلوب عمله لبناء هذا التيار، وأن تعميد أركانه يحتاج إلى الكثير من الوقت للتربية التكوينية والتوعية الوطنية، والرؤية الاستراتيجية التي تقوم على استيعاب الآخر، والعمل معه وفق توافقات يتراضى عليها الكل الفلسطيني.
ملاحظتان وكلمتان لا بدَّ من قولهما.. أولاً؛ ما كان لهذا التيار أن يتجمع ويحتشد خلف دحلان إلا لأن الرجل صاحب وفاء لمن عملوا معه، ولذلك عندما جاء قرار الرئيس أبو مازن بفصله من حركة فتح خرج الكثيرون معه سراً وعلانية، ولم يخذلوه، وكانت فكرة التيار الإصلاحي هي الرد على القرار الجائر، وصفعة على وجه كل من تواطأَ مع قرار الفصل، ولم يحاولوا برجولة التصدي لحكم الفرد، وردَّ المظالم إلى أهلها. والثانية؛ أن الشباب الذين عرفوا دحلان من خلال مواقفه الداعمة لهم قد وثقوا به وملك شغاف قلوبهم، وهم أكثر من غيرهم من انتصروا له، وصاروا اليوم هم العمود الفقري للتيار الإصلاحي الذي يقود خطاه، وهؤلاء الشباب يتزايد عددهم وعُدَّتهم يوماً بعد يوم.
باختصار.. إذا ما حاولنا قراءة المشهد السياسي اليوم، فإن التقييم بالعين الفاحصة ينتهي إلى نتيجةٍ مفادها: لقد نَضج دحلان سياسياً ونضالياً وكاريزميَّاً، فيما حالة الخَرف والتيه والتخبط تملأ ساحتنا الوطنية!!