تيار فتح الإصلاحي: حضور في مشهد الغياب!! بقلم : د. أحمد يوسف
السؤال الذي يطرح نفسه من حين لآخر: أين التيار الإصلاحي لحركة فتح؟ ولماذا هدأ وخفت صداه بعد الإجراءات العقابية التي أتخذها الرئيس (أبو مازن) في الفترة الأخيرة بحق العشرات من قياداته وكوادره؟! ولماذا تراجعت قوة دفع التيار وزخم الفعل والحضور الجماهيري الذي كان عليه داخل فعاليات النضال الوطني؟ هل هي تداعيات حالة الإحباط واليأس والمراوحة في المكان التي عليها كل المكونات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؟!
ربما تغيب الإجابات الواضحة والصريحة لكل هذه الأسئلة، ولكن ما نحن عليه من قناعة هو أن الرؤية الاستراتيجية لمستقبل الصراع مع الاحتلال ما تزال فيها الكثير من الضبابية والغموض، ويبدو أن الكل بانتظار ما تُفضي إليه “صفقة القرن” من حلٍّ جبري تمضي تطبيقاته على الأرض منذ أكثر من عامٍ دونما اعتراض حقيقي عليه، بل إن هناك مؤشرات لتساوق بعض دولنا العربية معه!!
وعليه؛ فإن أجواء الفصائل وقراءاتها السياسية هي أن “الانتظار والترقب” لمعرفة تفاصيل الصفقة هو سيد الموقف!!
نعم؛ ما تزال “جمعية التكافل”؛ الذراع الخيري، تؤدي دورها الإنساني في تخفيف معاناة الكثيرين من عائلات وشباب قطاع غزة، ولكنها لا تُغطي مساحات الحاجة المتعاظمة لشعب بلغت نسبة البطالة فيه أكثر من 50%، وحالات الفقر والفقر المدقع استشرت بشكل جنوني، بحيث أصبح من غير الممكن لأي مؤسسة بمفردها تقديم إسناد إغاثي لتغطيتها.
وبالرغم من أن التيار الإصلاحي يمتلك وجوهاً لشخصيات لها مكانتها واعتبارها في الأوساط الأكاديمية، إلا أن هناك عجزاً على مستوى الظهور في الساحات الفكرية والإعلامية؛ لأن هذه المجالات تتطلب مواقفاً قد تؤدي بأصحابها لتضحيات قد تثقل كاهل التيار والميزانيات المحدودة المتوفرة له.
في الحقيقة، يمكن للمراقب والقريب من قيادات هذا التيار أن يلمس صدق التوجه لديهم للتفاعل مع القوى والفصائل الوطنية والإسلامية، كما أن الرغبة متوفرة وبحماس كبير للتنسيق والعمل المشترك، إلا إن البعض من فصائل العمل الوطني يبدي تحفظاً من الدخول مع هذا التيار في تحالفات وأنشطة مشتركة في المناسبات الوطنية والحركات الشعبية، خشية أن يطالها عقاب السلطة، وتفقد مخصصاتها المالية المعتمدة كأحد فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، والنظر إليها من زاوية الفرعون وأجهزة بطانته باعتبارها فصائل متجنحة!! وبالتالي تفقد حقها – ظلماً وعدواناً – في الميزانية العامة لمنظمة التحرير!!
إن القناعة المتوفرة لدى قيادات هذه الفصائل أن الرئيس (أبو مازن) لا يتصرف وفق القانون أو اللوائح التي تحكم عمل وتوافقات منظمة التحرير، وأنه يتخذ من القرارات والمراسيم بحسب أهوائه الشخصية ومزاجه السياسي العام، إذ ليس هناك مرجعيات قضائية يمكن الرهان عليها، فأغلبها جاء بالتعيين من قبل الرئيس (أبو مازن)، ولا يمكنها أن توقف قراراته أو مراسيمه الرئاسية حتى وإن خالفت القانون الأساسي وصوت الظلم فيها صارخاً، وهناك الكثير من شواهد القضايا المعلقة لسنوات بلا أحكام تردع الجهات المتنفذة لوقف سياسات التفرد والعقاب الجماعي، والتي يتخذها من هو في مشهد الحكم والسياسة بمنطق “ما أريكم إلا ما أرى”!! لذلك، ظلت هذه الفصائل تنأى بنفسها عن الظهور والمشاركة في أي فعاليات نضالية يمكن أن يمثلها أو يشارك فيها هذا التيار.
علينا أن نقر بأن التيار الإصلاحي يفتقر إلى قيادات استثنائية يمكنها أن تمثله فكرياً بشكل واسع ولافت للنظر.. صحيحٌ، إن لهذا التيار قاعدة شبابية تتمتع بالحيوية والنشاط، ويمكن توجيهها في حراكات محددة أو فعاليات طلابية داخل الجامعات، ولكنها ما تزال بعد في إطار التشكل والتأطير، ولم تتضح ملامحها بالشكل الذي يطرح أسماءً يمكن الرهان عليها مستقبلاَ بأنها ستكون استثنائية وواعدة.. هناك القيادات التاريخية لهذا التيار، وهي تبدو مشغولة بإعادة ترتيب البيت الفتحاوي، ولكنها تصطدم بإجراءات الرئيس (أبو مازن) العقابية من حين لآخر.. ومع ذلك، فهي ما تزال محافظة على دورها في ترسيخ أقدامها داخل قطاع غزة بالمشاركة في الانتخابات النقابية والمهنية، والتي حققت فيها كسباً يُحسب لها كما شاهدنا ذلك – مؤخراً – بفوزهم بنقابة الصيادلة، وقبل ذلك بنقابة العاملين بجامعة الأزهر، كما أن تحركاتهم بين تجمعات الشباب الفلسطيني في الخارج تتنامى وتتوسع.
لا شكَّ أن أدبيات التيار ورؤيته السياسية ما تزال يكتنفها الغموض بعض الشيء، وذلك لعدم وجود كُراسات تنظيمية تعبر عن التيار كمستند يمكن من خلاله قراءة الرؤية الفكرية والاستراتيجية النضالية، وإن حاول التيار تظهير بعضاً من ملامح قناعاته عبر البيان الصادر في يناير الماضي، والذي تضمن ستة نقاط ذات عناوين متعددة الجوانب ومتكاملة في تفاصيلها، وهي تتلخص بالتالي: ضرورة المراجعة الشاملة للوضع الداخلي الفلسطيني، والذي من خلاله يمكن تحديد مضمون رؤية التيار التنظيمية للمرحلة القادمة عبر وحدة حركة فتح، وكذلك النظرة المستقبلية لإدارة الأزمة السياسية في ظل الانقسام وفق رؤية وطنية موحدة جامعة، من خلال انفتاح تيار الإصلاح على كافة الكل الوطني وقوى العمل السياسي، من أجل الحفاظ على هوية المشروع الوطني، واستعادته إلى طليعة العمل الفلسطيني من جديد، بهدف إيجاد مخرج وطني ملتزم تكون الانتخابات العامة وصندوق الاقتراع عنواناُ رئيسياُ للخروج من الأزمة بشكل عاجل وفاعل، والعمل على تشكيل درع يكون قادراً على حماية المشروع الوطني، والسبل الكفيلة على مواجهة التحديات، من خلال تشكيل جبهة إنقاذ وطني، عنوانها الشراكة السياسية الحقيقية الفاعلة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، وترتيب دوائرها وهيئاتها التي لحقت بها أضراراً جسيمة، جراء تغييب وتهميش دورها الريادي كممثل وحيد لشعبنا الفلسطيني، وبسبب تفرد أصحاب الأجندات الخاصة والمتنفذة بها.
التيار الإصلاحي وحركة حماس: التقارب المطلوب!!
ربما تبدو أقرب الجهات لهذا التيار الإصلاحي في مشهد الحراك الوطني هما حركة حماس والجهاد الإسلامي، ولكن هذا التقارب يتم النظر إليه واستيعابه في سياق تبادل المصالح التي تحكمها المبادئ والتفاهمات، وهذا أمر لا غبار عليه، فهذه هي السياسة، واعتقد أن قيادة التيار في هذه المرحلة لا تطمع في أكثر من ذلك.
وإلى حين أن تتضح بعض مشاهد المستقبل، سيبقى هذا التيار الإصلاحي يقوم بدوره في تقديم الدعم الإغاثي والاسناد السياسي الذي يسمح بتمدد قاعدته واحتضان الشباب له؛ باعتبار أن إمكانيات التيار وتوجهاته تشكل مخرجاً كريماً لبعض أزماته الحياتية وهمَّته النضالية.
ما يزال هذا التيار يتنامى، وقد تظهر انفراجات تمنحه بسط المزيد من الحضور والمكانة على الكثير من معاقل حركة فتح، والتي فقدت – للأسف – بوصلتها النضالية، في ظل ما استشرى من حالة الخضوع والخنوع المذِّل، التي أوصلتهم إليها بعض القيادات الحالية، من خلال تسلطها على مفاصل المشروع الوطني الفلسطيني.
للأسف، لا يجرؤ أحدٌ اليوم في هذه الحركة الوطنية العريقة أن يطرح رأياً يخالف نهج الرئيس محمود عباس، فالكل في المشهد النضالي يعزف على نفس الوتر، وتغريداته السياسية تتماهى مع منطق “إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا”!!
لا شكَّ بأن الحالة الفتحاوية التي نعتز بتاريخها النضالي ليست اليوم في أحسن حالاتها، كما هي عليه الحال أيضاً في باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي، ولكن حجم التراجع والخذلان الذي تشهده الحركة يبدو صادماً، ولولا بعض اشراقات الأمل والحِركات النضالية التي أظهرها التيار الإصلاحي في السياق الوطني، لقلنا إنه قد تُودِّع منها!!
ما زلنا نطمح أن تأخذ مساحات التلاقي والتفاهم بين شباب التيار وقياداته وحركة حماس بعداً أكبر، وأن تقدم النموذج على إمكانية التعايش والعمل المشترك؛ لأن النجاح في ذلك معناه أننا تسامينا على كل خلافات الماضي، وتجاوزنا مقولات القطيعة لحسابات “الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء”.
وعليه؛ فإن توسيع دائرة العلاقة بين التيار الإصلاحي وحركة حماس هي رأس الجسر الذي يمكننا من خلاله أن نبني قنطرة العبور إلى مستقبل وطني واعد.
الصمت أبلغ من الكلام!!
عندما يجمعنا الحديث مع قيادات التيار الإصلاحي حول مسألة الحضور والغياب في مشهد الحِراك الوطني، يأتيك الجواب بأن ساحات العمل كلها مأزومة، وأي جُرعات زائدة من الفعل النضالي قد يفهمها من هم في صدارة المشهد السياسي بعيداً عن مقاصدها وأهدافها.
نعم؛ التيار اليوم مشغول بتنظيم أطره الحركية والشبابية، ويجتهد في أولوياته بتثقيف كوادره وتوعيتهم سياسياً، وتأثيث أفكار نضالية قائمة على مبدأ الشراكة والتوافق الوطني، والبحث عن القواسم المشتركة للتعامل والتحرك مع الآخرين، وأن التيار هو جزء من الخريطة الوطنية التي تحترم الكل الفلسطيني، وتسعى للعمل مع الجميع بما يعزز من قدرات المشروع الوطني بروح ومنطلقات ثورية لا تسقط خيار العمل المسلح بذرائع وحسابات غير وطنية.
في الحقيقة، إن القريب من دوائر هذا التيار يلمس أنشطة على المستوى الإغاثي والإنساني كأحد الجهود لاستنهاض الحالة المعيشية وتعزيز فرص الصمود في وجه ضغوطات الاحتلال والحصار، وهو جهد تشكر عليه قيادات هذا التيار.
ملاحظة أسديها لأحبتنا في قيادة هذا التيار الإصلاحي، وهي أنهم يمتلكون كتلة شبابية بالآلاف، وهي حقيقة في طور التشكل الفكري والوعي السياسي، وتحتاج إلى أن يولوها – باعتبارها كتلة مهمة من هذا الجيل – أهمية في البناء على منهجية رافعتها تقول: “هذا الوطن نحرره معاً ونبنيه معاً”، وأن “الوطن ليس أنا أو أنت بل أنا وأنت”، وأن بوصلة النضال لا تعرف لها إلا هدفاً واحداً وهو الوصول بنا جميعاً إلى تحقيق طموحاتنا في التحرير والعودة، وأن أدبيات قاموسنا النضالي لا تعرف إلا واجهة واحدة للتحدي، وهي المواجهة والاشتباك مع العدو الصهيوني، وأن الدم الفلسطيني هو خطٌ أحمر، وأننا جميعاً “شركاء في الدم.. شركاء في القرار”.
وعليه؛ فإنني أناشد إخواننا جميعاً في الحركة الوطنية وفي التيار الإصلاحي وحركة حماس بشكل خاص، ألا تكون المحاضن التربوية مقصورة على كوادر التنظيم وحده، بل يتوجب فتحها للجميع ضمن صياغات وطنية لا نختلف حولها ونجتهد للتأسيس عليها والتأطير حولها. ولذلك؛ فإني أدعو أن تكون الصالونات السياسية مفتوحة للجميع، ولا يقتصر حضورها على فصيل بعينه، وعلينا أن نحرص في تلك اللقاءات التأكيد على مفاهيم جامعة، مثل: “الوحدة من خلال التعدد”، حيث إن هذا النهج يساعد ترسيخه على تخفيف الاحتقان الحزبي لحساب الأبعاد الوطنية بإطاراتها النضالية الواسعة. ولعل ما قاله محمود درويش يوماً ببلاغة الشاعر يختصر الكثير مما كنا نود قوله والقرع به على جدار الخزان أو الحفر على الجدار: “سنصير شعباً حين ننسى ما تقول به القبيلة”.