إن كانت القبة الحديدية درع تل أبيب.. فمصر درعُ فلسطين (1) بقلم : عامر القديري
هي مصر؛ كِنانة الله في أرضه؛ غَوثُ العباد، وأم البلاد، فضّلها الله على سائر البلدان، كما فضّل بعض الأيام، والليالي، وشهد لها في كتابه العزيز بعظم المنزلة، والرفعة، وكرر ذكرها، ومن أعظم ما قيل عنها: “سلطان مصر سلطانُ الأرض كلها”..
وأزيدكم من البيت شعرًا، لا يُعلم في أقطار الأرض قاطبةً مَن أثنى عليه الله بمثل هذا الثناء كما خصّه لمصر، فمَن أرادها الله بسوء قصمه، فقدّر لها أن تكون حصنَ العرب المنيع حتى وإن تعاقبت الخطوبُ والملمّات عليها.
واليوم، يخرج علينا جهلاء حاقدون ينكرون فضلها، وعظيم قدرها، ويقللون من شأنها الشامخ؛ بل بلغوا من الحقد والكِبر مبلغًا أنْ زايدوا على دورها في مساندة القضية الفلسطينية، ومصر لا يُزايدُ عليها إلا ضالٌ مضل.
إن مصر (شاء مَن شاء، وأبى مَن أبى) الراعيةُ الأولى، والحاضنة الوفيّة للفلسطينيين، وقضيتهم العادلة، تنافح عنهم على مرّ العصور، وتذبّ كيد وحقد كل متربّص بالشعب الفلسطيني، وليس هذا بكلامٍ أجوف نسرده؛ دغدغةً للشاعر، وتحريكًا للقلوب نحوها، فمصر لا تحتاج لإطراء مادح يَزيدها فخرًا، وثناء، ووجاهة، أو ينال منها ناقص متآمر ضدها ليل نهار.
لذلك، حِرصُ مصر على القضية الفلسطينية لم يكن وليد اليوم، أو بجديد عليها، فمَن ذا الذي يتناسَى دور الملك فاروق في دعم الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال اليهودي، وعصاباته حينما أرسل جيشًا إليها للدفاع عنها، ومواجهة المحتل الغاصب بكل السبل، وحينما رفض الراحل عبد الناصر في مؤتمر “اللاءات” في الخرطوم أي صلح أو تفاوض مع ما تسمى إسرائيل… إلخ، بعدها اقترحت مصر إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، لتوحيد الصف الفلسطيني… إلخ.
وهذا غيض من فيض.
مصر الكِنانةُ هي خط الدفاع الأول للفلسطينيين بلا منازع؛ جيشًا وشعبًا، وتاريخنا يؤكد هذا، وهو كفيلٌ بالرد على أي أبواق كاذبة تتهم مصر بالتقصير في حق مناصرة ودعم الشعب الفلسطيني، وهذا ما شهدت عليه خنادقنا، ومخيماتنا، ودماؤنا، كيف لا وشهداؤها الأبرار رووا بدمائهم أرض فلسطين.
وأنقذت غزة من عدوان إسرائيلي غاشم مراتٍ؛ عدوان كان سيحرق ويهدم ويدمر كل شيء في طريقه؛ الأخضر واليابس، الشيخ والعاجز، المرأة والطفل، فماذا فعلت المحروسة؟
أسرعت -كعادتها- بترتيب زيارات كثيرة بين تل أبيب غزة، وعبر جولات مكوكية لا تكل ولا تَمل منها، حتى إن الوفد المصري غفا في بعضها في القطاع؛ ليكون درعًا يضمن منه عدم وقوع عدوان جديد على الفلسطينيين الكادحين، بل لم يتحرك الوفد قَيد أنملة من مكانه مؤخرًا في القطاع، وكان ذلك في أَوج أيام صعبة، وتصعيد هنا وهناك قبل ذكرى يوم الأرض، ومن قبلها مليونية العودة، وذلك وقتَ أن لوح نتنياهو بشن عملية عسكرية كبيرة.
لقد ارتضت مصر وارتأت وضع نفسها بين خيارين مُرين، وهو ما لا يقدر عليه سواها، وذلك حين اختارت التعامل مع السلطة الفلسطينية التي تمثل (بحسب المجتمع الدولي، ومرجعياته) الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وبين ملف إنساني كارثي بمعنى الكلمة في قطاع غزة مُثقل بالمعاناة والأزمات، ولا يبرح مكانه عن هاتين أبدًا.
هنا، أعلت مصر كلمة المواطن الفلسطيني، وما يَئِنّ منه، على الرغم من الأصفاد والقيود الحديدية التي تلتفّ حولها في الداخل والخارج، فلم تلتفت لتوبيخ أو إحراج أو مَلامة، فانحازت له كاملًا، وفتحت له معبر رفح بصورة دائمة، ولم تحاول عرقلة العمل فيه، رغم انسحاب موظفي السلطة منه، وتهديدات حركة حماس للأمن القومي المصري.
وما زالت مصر -حتى الآن- ترسل المساعدات كافة إلى قطاع غزة.
ومن قريب، بذلت مصر جهدًا شاقًّا في محاولة لمملمة شَتات الفصائل الفلسطينية، وجمعها على كلمةٍ سَواء؛ ولإنهاء انقسامهم المرير، وجمع فُرقتهم البغيضة، وتحقيق الوحدة الوطنية الملحة، فاستضافت خلال اجتماعات متتالية في القاهرة هذه الفصائل؛ لدفع قطار المصالحة، ومعالجة القضايا الشائكة بينهم، والوصول لخطوط التقاء توحّدهم لا تُشرذمهم، وهي في كل هذا تذللُ لهم كل الصعاب والمعوقات.
فمَن يقدر على هذا ويتحمله سواها!
والمتابع للدور المصري المتواصل بما لا يستطيع أن ينكره كيف تعاملت مع حركة حماس، واحتوتها، وهذا المنطق الذكي في إدارة نقاشها وحواراتها معها لا يَصدُر إلا عن دولة قوية، حصيفة في إدارتها مع خصومها، وذلك على الرغم من إساءات حماس، وعناصرها، وتصريحات بعض قيادتها ضد مصر والمصريين، وهذه الأفعال الحمساوية الإجرامية من عبور واختراق عناصرها الأراضي المصرية، وأنفاقها قبل وبعد الثورة، وما خفي كان أعظمَ، لكنها المحروسة التي تسمو عن الصغائر، وتترفّع عنها، وتقدم مصلحة الأمن القومي العربي أولًا، فتعاملت بمنطق الشقيقة الكبرى بالفعل لا بالقول والشعارات مثل غيرها، الحامية المدافعة عنهم، كل ذلك من أجل إيجاد توافق فلسطيني قريب، وإرساء دعائم الوحدة؛ لمواجهة التحديات المختلفة التي تواجه الفلسطينيين، وتعرفها مصر يقينًا.
لهذا، لم تدخر مصر أبدًا يومًا أي جهد لتحقيق أي تعاون بنّاء في سبيل رفع المعاناة عن المواطن الفلسطيني، لكنه يظل مرهونًا دون التنازل عن وحدة الفلسطينيين، وقضيتهم، أو المساس والعبث بثوابت الأمن القومي المصري، من مثل تعدي منظمة التحرير في تمثيل الفلسطينيين، أو دعوات فصل القطاع، بل ستَحولُ مصر وبقوة ضد أي محاولة من شأنها الإضرار بمصلحة المواطن الفلسطيني، أو أن تُلحِقَ به الهزيمة والانصياع لأمر واقع مفروض.
إن القضية الفلسطينية تتربّع على عرش الأجندة السياسية المصرية الرئيسية، ولن تتركها أو تتغاضَى عنها، بل تبذل قُصارى جهدها للوصول لحل وسط يرضي جميع الأطراف، وينهي الانقسام، ويحقق التوافق الفلسطيني، بما يعود بالخير على المواطن الفلسطيني، وقضيته.