هل من وقفة للمراجعة؟ بقلم : د. أحمد يوسف
بوركتِ كُلّ فصائلي:
ولكن.. هل من وقفة للمراجعة؟!
يشهد قطاع غزة الكثير من انطلاقات الفصائل، حيث لا قيود على الحراكات الشعبية في سياقاتها النضالية والوطنية، فيما يقتصر الحال في الضفة الغربية عن تعبيرات رمزية لا تعكس حقيقة أوزان الكتل والتيارات بأشكالها النضالية المختلفة، فلا حجم للحضور الجماهيري ونبض الشارع الفلسطيني هناك. وهذا يستدعي السؤال: لماذا لا يُطلق العنان للتيارات والفصائل لإظهار حشودها الكبيرة، وقدراتها على التعبئة والتنظيم، وإمكانياتها على تحريك الانتفاضات والهبَّات الشعبية إذا ما صاح المنادي: هيَّا يا رجال.. أقصاكم تدوس طهارته نعال الاحتلال. فترد حشودُ “الكل الفلسطيني” بهمَّة وطنية عالية، وبصراخات رادعة: لبيكَ يا أقصى.. لبيكِ يا قدس؛ يا مدينةَ السماء وأرضَ الأنبياء، يا منبت الثورة والثوار.
نعم؛ قد تحمل صور الحشود ومشاهدها الكثير من الرسائل القوية لإسرائيل “الدولة المارقة”، وخاصة في الضفة الغربية، التي تغيب فيها ملامح السلطة ووضعية الحرية والتمكين، وتهيمن على أحوال أهلها مظاهر الاستلاب وعنجهية المستوطنين، وأحالتها الاجتياحات العسكرية المتكررة وبساطير الاحتلال إلى هشيمِ كرامةٍ وكلأ مستباح.
إن الحالة في الضفة الغربية هي اليوم أكثر حاجة من قطاع غزة لمثل هذه الانطلاقات الشعبية الحاشدة، لتثبت لإسرائيل والعالم بأن ضفتنا الأبية ما تزال بخير، وأنها لم ولن تستسلم، ففيها شباب “قوي البأس جبار عنيد”، وأن قدرات أهلها على القتال ورد العدوان ما تزال حيَّة، وشعار عقيدتها: “وليجدوا فيكم غلظةً”.
ومن باب الحقيقة القول، إن ثعالب إسرائيل ما كانت لتجرؤ على استباحة القرى والبلدات في الضفة الغربية لو كانت عيون “نواطير” ضفتنا لم تنم، وكانت ساهرة تحرسها، ولكنها كما يقول المتنبي “فقد بشمن..”؛ أي تراخت من سُمنة التنسيق الأمني والقبضة الحديدية، والتي أحكمتها – للأسف – على رقاب كل من تُسوِّل له نفسه إيقاع الأذى بالاحتلال ومستوطنيه!!
قراءة في انطلاقات الفصائل
إن مشهد الانطلاقات الفلسطينية في قطاع غزة يشي بأن خزان الوطنية النضالية لم ينضب، وأن الالتفاف خلف المقاومة بكافة أشكالها ما زال يمتلك رصيداً ثابتاً وحماسة لا تُنازع.. ففي انطلاقة كل فصيل تمتلأ الساحات الشهيرة في مدينة غزة، وبالشكل الذي يعطيك الانطباع أن الكل لديه مئات الآلاف من الكوادر والمناصرين، وهذا فيه شيء من الحقيقية، فقطاع غزة كان وما زال هو رافعة النضال الفلسطيني، ومن بين أوجاعه وآلام لاجئيه خرجت طلائع من قادوا الحركة الوطنية وأسسوا حركة فتح، كالرئيس ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف (رحمهم الله). كما أن هناك وجوهاً قيادية وزعامات نبتت جذورها هي الأخرى من هذه التربة النضالية، فالشيخ الشهيد أحمد ياسين؛ مؤسس حركة حماس، خرج من مخيم الشاطئ بمدينة غزة، والدكتور الشهيد فتحي الشقاقي؛ مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، نمت أفكاره وأثمر ينعه في مخيم الشابورة بمخيم رفح، وغيرهم كثير ممن كانت لهم في ساحات الوغى مع الاحتلال صولات وجولات.
إن الحركة الإسلامية كما الحركة الوطنية كانت إطلالاتها الأولى وإشراقات شمسها من مخيمات اللجوء في قطاع غزة، حيث كانت بداية الشرارات وانطلاقات العمل المقاوم في الخمسينيات، ثم كانت انتفاضة أطفال الحجارة التي زلزلت كيان الاحتلال، وأذَّلت هيبة “الجيش الذي لا يقهر”!! ومرَّغت أنفه في تراب حواري مخيمات القطاع من شماله إلى جنوبه، ثم كانت انتفاضة الأقصى، والتي كان لشباب الحركتين الإسلامية والوطنية فيها حظ وافر.. ثم كانت ما نشاهده -اليوم – من انطلاقات حاشدة وهبَّات مشهودة في مسيرات العودة وكسر الحصار، برسائلها الواضحة بأن شعبنا مازال بمقاومته وجهاده حيّاً لا يموت، وأن مطالبنا بالعودة واستعادة الأرض هي حقٌ يأبى النسيان.
لا شك أن كل الفصائل في السياق الوطني والإسلامي تحرص على إظهار مكانتها من خلال هذه الحشود بعشرات الآلاف، وتوجيه رسائل بأن حاضنتها الشعبية ما تزال متماسكة، وأن فكرها ورؤيتها النضالية لها حضور وتلقى القبول، وهذا ما يمنحها الشرعية، ويؤهلها للحصول – بجدارة -على حقها في جهات التمثيل الفلسطيني الرسمية، كما يمنح طروحاتها حق الاحترام والتقدير في منابر اتخاذ القرار وصياغة السياسات، التي تتعلق بمشروعنا الوطني واستراتيجيات التعاطي مع الاحتلال. بصراحة؛ هذه الانطلاقات تحمل رسائل متعددة الأغراض والأهداف، حيث إن بعضها هي سهام موجهة للاحتلال بأن الشعب المقاوم ما زال بخير، وهو يلتف خلف قياداته الوطنية والإسلامية ثابت الخطى، وأنه لن يفتَّ في عضده اليأس أو يدرك عزمه القنوط، وأن نهجه المقاوم ما زال خياراً قائماً، ما دام هناك جرحاً فلسطينياً نازفاً وشعباً مشرداً.
الرسالة الثانية؛ هي لمن يريد أن يقنعنا في غياب الرؤية الوطنية الجامعة بأن الاستسلام والاستخذاء والتنسيق الأمني مع الاحتلال، ونبذ العنف، هي خيارنا الوحيد لنيل الحرية والاستقلال!! هذه الحشود التي تعبر عن “الكل الفلسطيني” مفاد رسالتها: لا.. إن هناك خيارات أخرى، وأن شعبنا يمتلك البدائل وفي جعبته الكثير، واتركوه كي يمارس حقه في الجهاد والمقاومة، وأن الحشود الهادرة في قطاع غزة لها مثيل يغلي مرجله في الضفة الغربية، وعليكم أن ترفعوا أيديكم عن ملاحقته إذا ما ثار بركانه.
الرسالة الثالثة للمجتمع الدولي؛ وهي تشير إلى أن هذه الحشود تمثل شعباً له حقٌ، وأنه وراءه مطالب.
انطلاقة حماس: الدلائل والمؤشرات
بعد واحد وثلاثين عاماً من الانطلاقة المباركة لحركة حماس، وأكثر من عشر سنوات في مشهد الحكم والسياسة، وثلاثة حروب عدوانية على قطاع غزة، وحالة مأساوية آلت إليها الأوضاع المعيشية في القطاع، فإن هذه الحركة ومن خلال هذا الحشد الكبير تثبت أنها ما تزال قوية على الأرض، وأن رؤيتها تحظى بالقبول الشعبي الكبير.
ولكنَّ سياقات الواقع السياسي والاقتصادي والحياتي المتردي في ساحتنا الفلسطينية، وتراجع مكانة القضية إقليمياً ودولياً، يطرح الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام، ويفرض على الحركة وقفةً للمراجعة لوضع النقاط على الحروف، حيث إن هناك أكثر من مسألة لها علاقة بمستقبل وجودنا السياسي وعلاقتنا مع الآخر؛ الصديق أو الخصم السياسي، كما أن المشروع الوطني الفلسطيني بات هو الآخر بحاجة إلى مسارات وتوافقات جديدة.
في الحقيقة، ليس هناك فلسطيني واحد يعترض على حقنا في المقاومة، فهي رأس مال الوطنية الفلسطينية، ولكن قد يكون هناك تحفظٌ على بعض أدواتها وجدواها في مرحلة ما، وخاصة في قطاع غزة.. اليوم، تتحرك المقاومة باعتماد أدواتها السلمية اللاعنفية؛ كمسيرة العودة وكسر الحصار، وهذا تطور تكتيكي ونوعي لسد باب الذرائع أمام الاحتلال، ومحاولاته العدوانية السافرة والمتكررة على قطاع غزة، وقد تمكنت المقاومة عندما استدعت الضرورة الرد بقوة كافية لردع جرائمه وانتهاكاته العسكرية.
لا شك أن الانطلاقة الـ31 كانت مميزة، من حيث حشدها الشعبي الأكبر والأكثر إثارة من ناحية العدد والإعداد والتغطية الإعلامية، وهذا شيءٌ يحسب لحركة حماس؛ كونها اليوم هي الأوسع تنظيماً وانتشاراً على مستوى قطاع غزة، وربما كذلك في الضفة الغربية.
ولكنَّ هذا النجاح الذي تحقق للحركة في هذه الاحتفالية، يفرض عليها – بدون شك -التزامات كبيرة تجاه شعبنا الفلسطيني، الذي يئن ويتوجع بسبب تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع نسبة البطالة والحصار الضارب الأطناب، ويضعها اليوم في دائرة المسئولية والمسائلة تجاه متطلبات الحياة الكريمة المطلوب توفيرها لأهلنا في قطاعنا الحبيب. ويحضرني هنا تلك الكلمات المعبرة لأخي د. عدنان أبو عامر؛ المفكر الإسلامي والأكاديمي المختص بالشأن الإسرائيلي، حين غرَّد قائلاً: إن “قدرة حماس على استقطاب هذه الأعداد في مهرجان انطلاقتها، وفي ظل حصار محكم الإغلاق، وإصرار المحاصرين على استكمال حلقاته حتى النهاية، حتى لو بإبادة الغزيين، أصحاب الأرواح السبعة، يوجب على حماس أن تقيم لسكان القطاع تماثيل من الأحجار الكريمة؛ لأن قدرتهم على الصمود فاقت كل تصور.. وهنا، لابدَّ لحماس أن تنظر بعين أكثر حرصاً وتحسساً لأوضاعهم. نعم؛ هناك جهود تبذل، ولكن حشود الجماهير اليوم تضع مسئوليات كبيرة على حماس، وتتطلب مزيداً من الجهد والتوازن في صرف الموازنات؛ على قلتها”.
وأختم هنا بما طرحه الصديق المهندس عماد الفالوجي؛ القيادي السابق بحركة حماس، حيث كتب في مقال له بعنوان: “حماس وسيل من الذكريات”، أشار فيه إلى بدايات الحركة ومنطلقاتها والإنجازات التي حققتها والتحديات التي واجهتها عبر تلك المسيرة الطويلة، وأنهى قائلاً: “حركة حماس اليوم في ثوب جديد وفي طور جديد، وأمام مفترقات جديدة، بين الماضي والحاضر والمستقبل، ماضي حماس مختلف عن حاضرها، ومطلوب أن يكون مستقبلها مختلفاً عن حاضرها، هل ستتمكن من تفكيك هذه المعادلة وتقدم النموذج المطلوب لتستمر في ذات الطريق؟ وأضاف: لازلت أكرر أن الإشكالية الحقيقية هي أن حركة حماس انطلقت كجسم مواجه للاحتلال ويمثل الطموح، بينما الفعل السياسي يمثل الواقع ومتطلباته، ومن الصعب التزاوج بينهما، حيث إن العمل السياسي يحتاج إلى جسم وآليات ولغة وضوابط مختلفة تماماً، ويجب حل هذه المعضلة، وهذا يحتاج إلى قرار يوازي قرار تشكيل الحركة، وبالتالي تتقدم نحو فكر أكثر انفتاحاً وأكثر قدرة على التعامل مع الواقع وتعزيز لغة الشراكة الحقيقية مع الكل الفلسطيني”.
السؤال اليوم والذي ينادي به البعض وأنا منهم، متى تأتي المراجعات ويأتي القرار بتشكيل واجهة سياسية تمثل رؤية الإسلاميين في مشهد الحكم والسياسة، وتجمع حولها وتحت مظلتها تحالفات وطنية واسعة؟
سؤال ستجيب عنه مرجعيات الحركة؛ باعتباره استحقاقاً لفض التداخل بين السياسي والعسكري، وذلك في الانتخابات التنظيمية القادمة بعد عامين.