لا نؤمن بها ونبحث عنها بقلم : د. أسامه الفرا
يبدو جبل بيليجرينو وهو يطل على ميناء مدينة باليرمو الايطالية وكأنه الحارس الذي يرصد الحركة في عاصمة جزيرة صقلية، تلك الجزيرة التي صنع منها التاريخ جسراً يربط الشرق بالغرب، حيث ما زالت المدينة تحتفظ بأسماء عربية من زمن حكم العرب لها في القرن التاسع الميلادي، على قمة الجبل تمتد حديقة واسعة يرتادها المواطنون هرباً من صخب المدينة، وبجوارها يعلو تمثالاً للقديسة “سانتا روزاليا”، تقول الرواية أو بمعنى أدق الأسطورة بأن سانتا روزاليا كانت تقيم في كهفها عند قمة الجبل، وعندما استوطن مرض الطاعون في المدينة وفتك بالعديد من سكانها في القرن الثاني عشر، ظهرت القديسة لمواطن محموم تغلغل الطاعون في جسده، فأشارت عليه بمكان عظامها وطالبته بأن يلتقطها ويطوف بها أرجاء المدينة، وبمجرد أن فعل المواطن ذلك تخلصت المدينة وقاطنيها من مرض الطاعون، ورغم مرور قرون عدة على تلك الاسطورة إلا أن المدينة ما زالت تحتفل بيوم يحتشد فيه سكان الجزيرة تقديراً للقديسة التي انقذتهم وخلصت مدينتهم من المرض.
سكان باليرمو وان حافظوا على احياء تلك الاسطورة بكرنفال جماهيري حاشد يشارك فيه سكان الجزيرة بفئاتهم العمرية المختلفة، إلا أن ذلك لا يأتي من باب ايمانهم بالخرافة، كون الخرافة التي تستند في كثير من أدبياتها على المنقذ والمخلص تشب على قدميها في صحراء التخلف والعجز المجتمعي، والنهضة الأوروبية طوت تلك الصفحة منذ قرون عدة، فلم تنتظر تلك المدينة حين أصابها طاعون المافيا نهاية القرن الماضي من يأتيها على ظهر جواد أبيض ليخلصها من المافيا التي أمسكت بتلابيب الدولة، بل قرر المجتمع على أثر اغتيال القاضيين من قبل عصابة المافيا أن يعمل بشكل جمعي لاستعادة القانون في الجزيرة.
ما زلنا في مجتمعاتنا العربية لا نؤمن بالخرافة وفي الوقت ذاته نبحث عنها، نؤمن بقوة الفرد ونجعل منها اسطورة تداعب أحلامنا، وننسج له من خيوط الوهم ثوباً نلبسه إياه كي نجعل منه قديساً، لنخطب بعد ذلك بركته كي تحل علينا وتنتشلنا من واقعنا المؤلم وتأخذنا إلى عالم لا وجود له، ونهتف عند بابه بالروح بالدم نفديه، ونقر له بأنه لا ينطق عن الهوى، فتتملكه نرجسية يطوق بها أعناقنا ويقتلع من أعماقنا بمنجلها أدميتنا، ويطيب لنا أن يهش بعصاه الغليظة بقايا العقل فينا، كم يطيب لنا أن نسجد في محرابه ونولي وجوهنا قبلة يرضاها.
الامم التي استطاعت أن تنفض عنها غبار التخلف هي تلك التي آمنت بأن الأفراد ماضون والمؤسسة باقية، هي تلك التي ايقنت بأن الفرد الذي يمتلك العصا السحرية خرافة، هي تلك الأمم التي عظمت القانون ورفضت التسلط والتفرد، هي تلك التي آمنت بأن الديمقراطية ليست صناديق اقتراع وأن تفويض الشعب لممثليه ليس تفويضاً أبدياً لا يجوز الطعن فيه.
سنوات الانقسام العجاف ألقت بوزرها على مكونات حياتنا المختلفة، ومعالجة تداعياتها ليس بالأمر الهين، ومن السذاجة الاعتقاد بأننا قادرون على تجاوزها اعتمادا على فانوس سحري يأتينا من حيث لا ندري، ولا يمكن لأحد أن يأتي بعصا موسى ليضرب بها الأرض فتتلقف الأزمات التي نعاني منها، ومن غير المنطق في شيء الاعتقاد بأن المصالحة ستجلب لنا في صبيحة اليوم التالي حلاً سحرياً للفقر والبطالة وباقي أزماتنا الحياتية، لكن ذلك يجب ألا يدفعنا للاستسلام لحاضرنا المأزوم وكأنه مرض لا شفاء منه، ولا أن نسطح من تعقيداته ونغلفها بشعارات لمداراة العجز والفشل، نحن بحاجة لأن نقف أمام الحقيقة بتجرد دون تجميل لها، وأن نغادر مربع التفرد على اعتبار أن الشراكة لم تعد ترفاً فكرياً بل ضرورة حتمية.