كانت الساعة الثالثة عصرا من يوم الأحد، الرابع والعشرين من يونيو 2012 بتوقيت القاهرة، ساعة تاريخية في مسيرة الشعب المصري بعد زوال ورحيل نظام حسني مبارك بفضل إرادة ثورة الشعب التي انطلقت في الخامس والعشرين من يناير 2011 ، وأعطت قمة ثمارها ونتائجها في إعلان رئيس المحكمة الدستورية المستشار فاروق سلطان بفوز الدكتور محمد مرسي برئاسة مصر، وهو ممثل حزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين المصرية التي تأسست عام 1928 بجهود المؤسس المرحوم حسن البنا، وظلت ممنوعة ومقموعة ومسجونة حتى انطلاق ثورة يناير 2011 التي أعادت لها وللشعب المصري حريته في تشكيل الأحزاب واختيار الرئيس الذي يريده.
علامتان مهمتان في هذه النتيجة الرئاسية
الأولى: نزاهة وحيادية المجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي، رغم التعديلات والقوانين الأخيرة التي اتخذها قبل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بيومين فقط. لقد كان البعض يعتقد ويرى أنّ المجلس العسكري سينحاز أو يزور الانتخابات لعسكري مثله هو المرشح الثاني الفريق أحمد شفيق في مواجهة الدكتور محمد مرسي. فجاء فوز الدكتور محمد مرسي بفارق حوالي مليون صوت ليدلل على حيادية المجلس العسكري رغم الصراع الخفي والعلني طوال ما يزيد على نصف قرن مضى بين العسكر وجماعة الإخوان المسلمين. إلا أنّ العصر المصري الجديد المطالب بديمقراطية عصرية أثبت أنّ المجلس العسكري عند وعوده باحترام إرادة الناخب المصري وتسليمه السلطة للرئيس الجديد المنتخب قبل نهاية يونيو 2012 . وقد كان المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري أول المهنئين للدكتور مرسي بفوزه برئاسة مصر، وكان مرسي محقّا في قوله في خطابه الأول: ” أحيي القوات المسلحة وأقدّر دورهم، وأحرص على تقويتهم”.
الثانية: هي خسارة مرشح النظام القديم المنهار بإرادة وثورة الشعب المصري الفريق أحمد شفيق الذي كان لا يخفي أن حسني مبارك هو مثله الأعلى. وأثبتت خسارته أنّ الشعب المصري لم ينس أنّه كان آخر رئيس وزراء معين من قبل النظام البائد، وفي زمنه ارتكبت مذابح بحق الثوريين المصريين خاصة ما عرفت بموقعة الجمل في ميدان التحرير، من قبل بلطجية وشبيحة النظام القديم. وخسارة أحمد شفيق واندحاره من رئاسة مصر الجديدة سيكون وسيظلّ علامة فارقة في مسار ثورة الشعب المصري ، لأنّ توليه الرئاسة كان سيعني أنّ نظام حسني مبارك ما زال قائما رغم تغير الأسماء والأشكال والقبعات، خاصة أنّه طالما أثنى على نظام حسني مبارك ، وتصريحاته الاستفزازية مرارا ضد الثوار والإخوان المسلمين معا.
خلفيات ترحيبي وتفاؤلي برئاسة مرسي
صحيح أنّ الدكتور محمد مرسي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين المصرية التي هي الأم لكافة جماعات الإخوان المسلمين في العالم، حيث تأسست الجماعة في مدينة الإسماعيلية المصرية عام 1928 بجهود المرحوم الأستاذ الشيخ حسن البنا، و الدكتور مرسي فاز بالرئاسة ممثلا لحزب الجماعة ( الحرية والعدالة ). والسؤال الذي يفرض نفسه ضمن ذات السياق هو: هل جماعة الإخوان المسلمين جماعة تكفيرية متطرفة مثل بعض الجماعات التي ارتدت زورا عباءة الإسلام، ومارست الباطل والظلم باسم الإسلام البريء من تصرفاتها وأعمالها؟. جوابي عبر معرفتي بالجماعة والعديد من قياداتها هو: لا..لا..فمنذ عام 1952 رغم كل ممارسات نظام عبد الناصر القمعي ضدها، إلا أنها لم تقم بأية أعمال انتقامية داخل مصر أو خارجها، رغم الإعدام الإجرامي من قبل نظام عبد الناصر للقائد الإخواني سيد قطب، عبر سيناريو مؤامراتي ثبت وضعه وابتكاره من مخابرات عبد الناصر بعد سجنه حوالي عشرة سنوات، وتم الإعدام بطريقة غير انسانية في أغسطس عام 1966 ، ومن المواقف المؤثرة التي رواها أيضا الشهيد الشيخ عبد الله عزام عن بعض اللقطات التي حدثت يوم تنفيذ الإعدام، أنّ القتلة منفذي الإعدام قد عرضوا عليه ”أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة ويتم إصدار عفو عنه“، فقال: إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل“. وعرف لاحقا أن الذي قام بتلقينه الشهادتين قبل الإعدام قال له: ”تشهد“، فقال له سيد قطب: ”حتى أنت جئت تكمل المسرحية نحن يا أخي نعدم لأجل لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله”.
وغالبا الضحية لن يتحول لقاتل
لقد ناضلت الجماعة الإخوانية في مصر بصمود وشجاعة طوال ما يزيد على ستين عاما رغم عدم الاعتراف بها، بعكس مثيلتها في الأردن، وحجم القمع ضدها ومصادرة حرياتها، وكانت توصل العشرات للبرلمان المصري كمستقلين، لذلك فمن مورس ضده كل هذا القمع والقتل، لن يقوم بممارسة نفس العمل بحق بني شعبه المصريين الذين في غالبيتهم ذي توجهات ايمانية أيا كانت نوعية تصرفاتهم. لذلك فأنا متفائل كثيرا من حكمة الجماعة ورئيس مصر الجديد الدكتور محمد مرسي القادم منها، لأنّ هذا الرئيس وحزبه ( الحرية والعدالة ) سيعملون جهدهم من أجل تقديم الصورة الحضارية عن الإسلام والمسلمين انطلاقا من مبادىء الإسلام الحقيقية، التي يكفي آيتين من القرآن الكريم لبيانها: ( لكم دينكم ولي دين ) و ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم ). ويكفي التمثل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ). لذلك لديّ قناعة مطلقة أن الرئيس الدكتور محمد مرسي بوحي من مبادىء جماعته ( الإخوان المسلمين ) سيكون عند حسن ظنّ كافة المصريين، ليؤسس لديمقراطية جديدة بعد قمع واستبداد دام منذ يوليو 1952 حتى الخامس والعشرين من يناير 2011 . خاصة أنّ الجماعة تدرك حجم التشويه الذي لحق بسمعة الإسلام والمسلمين من أعمال وتصرفات الجماعات التكفيرية المتطرفة، وبالتالي فمسؤوليتها أن تعيد للإسلام صورته الحقيقية المتعايشة مع الجميع على قاعدة الاحترام والمساواة، وليس التبعية والتكبر من أي طرف أو دولة ضد غيرها.
لذلك كان الترحيب داخليا وعربيا ودوليا بفوزه عارما وصريحا
وكان أول المرحبين البيت الأبيض الأمريكي حيث أجرى الرئيس الأمريكي باراك اوباما مكالمة هاتفية بالرئيس الجديد محمد مرسي، وأوباما يعرف أنّ مرسي خريج الجامعات الأمريكية وعمل فيها،لذلك أكّدّ أوباما في مكالمته على ( أنه يتطلع لعمل المشترك مع الرئيس المنتخب على قاعدة الاحترام المتبادل لتعزيز المصالح المشتركة العديدة بين مصر واللايات المتحدة). وتوالت الاتصالات والتهنئة للرئيس الجديد من حكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، وعربيا دولة ألإمارات العربية المتحدة والكويت والسعودية، والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي أكمل إحسان أوغلي. وهذا دليل على التفاؤل المطلق بأن الرئيس الجديد سيكون نواة حضارية لإسلام معتدل يساوي بين الجميع، ولا يحرّض على كراهية أحد. ولا أعتقد أنّ تفاؤلات وتهنئات الدول الأمريكية والأوربية لرئيس مصر الجديد أتت من فراغ، بدون اتصالات مسبقة وتأكيدات بأنّ العهد الجديد سيحفظ حقوق جميع المصريين على قدم المساواة خاصة المرأة والأقباط الذين هم جزء أساسي ورئيسي فاعل ومنتج في نسيج المجتمع المصري.
وماذا عن أقباط مصر تحديدا؟
أكتب هذه الفقرة وغالبية ألأقباط المصريين يعرفون أنني ممن كتبوا كثيرا ضد المظالم التي تعرضوا لها، وشاركت في أكثر من مؤتمر لهم خاصة التي انعقدت في زيوريخ من قبل منظمة ( ألأقباط متحدون ). في البداية من المهم الإشارة إلى أنّ الأنبا باخيوس قائم مقام الكنيسة القبطية المصرية، أرسل برقية تهنئة للدكتور محمد مكرس مهنئا بفوزه برئاسة مصر. وأنا على يقين أنّ الرئيس الجديد انطلاقا من خلفيته الإسلامية سوف يكون اكثر حرصا على حقوق أبناء شعبه الأقباط، وسوف يتمتعون بحريات كانوا قد افتقدوها في ظلّ نظام العسكر المنهار رغم اشاعة أنّ غالبية ألأقباط صوتوا للمرشح العسكري الخاسر أحمد شفيق. ومن المهم التذكير بأنّ عهد حسني مبارك لم يخل إسبوعا من تعديات ضد الأقباط وصلت لحد حرق الكنائس وتفجيرها، وتهجير عائلات بكاملها، وحسب وثائق تم نشرها بعد ثورة يناير إن صحّ مضمونها فالتفجير الأخير لكنيسة الإسكندرية قبل الثورة تمّ بتخطيط وتنفيذ عصابات تابعة لوزارة الداخلية في زمن حبيبها العادلي. لذلك فهناك أمل وتفاؤل كبيران أن يعمد الرئيس الجديد ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمين ذات الفاعلية والتأثير في بنيان المجتمع المصري المتدين، إلى اشاعة روح التسامح بين الديانتين والتوضيح للجميع أن الدين علاقة شخصية بين الفرد وخالقه، ولا يجوز لأحد أن يفرض على الآخر ديانته أو يصادر حقه في ممارسة ديانته حسب طقوسها وتعليماتها.
ويكفي أنّ الخطاب القصير الذي وجهه الرئيس الدكتور محمد مرسي مساء فوزه ، كان مطمئنا للجميع مصريا وعربيا ودوليا، خاصة أنّه تمّ انسحابه كعضو في جماعة الإخوان المسلمين، فقد أصبح رئيسا لكل المصريين مسلمين ومسيحيين . وقد أكّدّ بأنه سيكون على مسافة واحدة من الجميع، وانّه سيكون رئيسا لجميع المصريين والمحافظة على المعاهدات الدولية وحقوق الإنسان والمرأة.
لقطة حضارية من أحمد شفيق
وكان المرشح الخاسر للرئاسة الفريق أحمد شفيق حضاريا في برقيته للدكتور أحمد مرسي مهنئا له بالفوز ، متمنيا له “التوفيق في مهمته الصعبة التي كلفه بها الشعب المصري العظيم”. رغم كل المشاحنات والملاسنات التي جرت بينهما اثناء جولة الإعادة التي أدت لفوز مرسي بالرئاسة..
لذلك أختم وأقول: هنيئا للشعب المصري الشقيق بديمقراطية تليق به وبصموده ونضاله وباختياراته . ولننتظر التطبيقات الميدانية للرئيس الجديد كي نرى هل تفاؤلنا هذا في محله أم لا؟. إذ لا يجوز الحكم مسبقا بسبب الصورة المعتمة التي يحملها البعض عن جماعة الإخوان المسلمين، فالتطبيقات القادمة في واقع مصر خاصة ميدان الحريات العامة وحقوق المرأة والأقباط، ستكون هي معيار الحكم على الرئيس الجديد وحزبه. لأنّه في السياسة العامة لا تجوز مقولة ( عنزة ولو طارت).
www.drabumatar.com