انتهت حرب طروادة ، وعاد ملوك وقادة الإغريق القدماء كل إلى مدينته عدا واحدا ً : أوديسيوس أو عوليس
في الترجمة العربية المعاصرة – هذا البطل الأسطوري الذي نسج حوله شاعر اليونان الأعظم هوميروس ملحمته الثانية الأوديسا ، بعد الإلياذة الأشهر . عشرة أعوام في التيه والشتات قضاها عوليس ، ذاق فيها كل أصناف الوجيعة والشوق والمكابدة ، بينما الوطن ينتظر عودته حيث الزوجة والرفاق .
ترى أي سر انطوت عليه تلك “التغريبة ” المذهلة ؟ بل و يا ترى لماذا وقعت أصلا ً، رغم أن الطريق إلى الوطن كان معروفا ً ينادي على عوليس وأصحابه أن اقبلوا ؟! وفيم كان ادعاء الصمم من قبل هؤلاء ؟!
دعنا نتوسل التحليل النفسي للأدب لنفكر في احتمالية أن عوليس وصحبه إنما كانوا يقاومون – في اللاوعي منهم – رغبتهم في العودة ، ربما ليتجنبوا اختبار الفحولة حين يلتقي واحدهم امرأته ذات الأنوثة المتفجرة ، لا سيما وهو يعلم إنه استهلك طاقاتـِه الحيوية َ في مشاغل حرب ( وتجارة أيضا ً ) طالت سنينا ً . تلك إذا ً حالة
واضحة لما يمكن تسميته برهاب العودة للبيت Home phobia التي يعاني فيها المرء من ذعر شديد ناجم عن
تصوره أنه لابد سيعجز عن أداء مسئولياته تجاه أسرته وأهل بيته ؛ ومن ثم يضع أمام نفسه وبنفسه العقبات
والعراقيل لكي لا يرجع .
هدف الأسطورة هو إلقاء الضوء على بنية الإنسان ، شرحا ً لمكوناته ودرء ً لمخاوفه وتفسيرا ً لمواقفه ، غير أن الأسطورة ذاتها تحتاج لمن يفسرها حتى لا يغم على أحد مغزاها. وهنا يأتي دور علم الأساطير Methodology وعلم النفس الاجتماعي ، بل والنقد الأدبي المقترن بالنقد الثقافي العام . فهل لنا أن نحاول قراءة موقف منظمة حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) على ضوء أسطورة عوليس
وفي ظل العلوم الإنسانية الحديثة ؟
*** ***
من المسلم به أن الدولة الحديثة في عصرنا تنال شرعيتها من اعتراف دول العالم ( ممثلة في هيئة الأمم
المتحدة ) بغض النظر عما سبق قيام هذه الدولة أو تلك من جرائم ومآس تكون قد أوقعتها بحق شعب أو أمة أخرى . ينطبق هذا على إسرائيل كما ينطبق على أمريكا ذاتها . فالعبرة من وجهة نظر الأمم المتحدة هي محاسبة الدولة عن أفعالها بعد قيامها وليس قبل . وعليه صدر قرار الأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1948 بإنشاء دولة عربية للفلسطينيين جنبا إلى جنب الدولة ” العبرية ” التي اعترفت بها دول العالم فور إعلانها. وإضافة إلى ذلك صدر القرار 194 لسنة 1948 ليقر بحق اللاجئين في العودة لديارهم أو تعويضهم عما فقدوه من ممتلكات . ومنذ هذا التاريخ طفقت إسرائيل تعرقل، بينما انبرى الفلسطينيون يناضلون لأجل تطبيق هذين القرارين ، إلى أن انتزعوا اعتراف المجتمع الدولي ( مؤتمر مدريد 1991 ) بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة وتلا ذلك توقيع اتفاقية أوسلو أيلول 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني . وبناء على هذه الاتفاقية فتحت أبواب الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين لجميع الفصائل بما فيها منظمة حماس . وهكذا تحددت معالم البيت أمام الجميع ، ولم يبق إلا العمل المسئول القاصد انتهاء الاحتلال وإعلان الدولة . فكان منطقيا ً أن تحذف المنظمة من ميثاق تأسيسها الدعوة لإزالة إسرائيل ، مقابل تسليم الأخيرة لها بإقامة سلطة وطنية فوق الأراضي المحتلة، تمهيدا ً لإقامة الدولة الفلسطينية من خلال التفاوض على حل القضايا المعلقة بين الطرفين .
غير أن حماس ، التي قبلت بالدخول في العملية الانتخابية في ظل اتفاقية أوسلو ، سرعان ما أبدت رفضها لهذه الاتفاقية ، مؤكدة على ضرورة محو إسرائيل من الوجود . وكأنها بذلك قد راحت عامدة تسبح في البحار الأيديولوجية البعيدة ( مخايلات الإسلام الإمبراطوري) خوفا ً من الاستقرار ” السياسي ” المحدد داخل البيت الفلسطيني، الذي صار معدا ً للسكن بموجبات الشرعية الدولية ، وقد تمثل هذا الخوف من الاستقرار السياسي في قيام حكومة حماس “المنتخبة” بانقلاب حزيران 2007 ضدا ًعلى الرئاسة الفلسطينية ( المنتخبة أيضا ً ) وبذلك أعفى الحمساويون أنفسهم من مسئوليتهم عن الوصول بالقضية الفلسطينية إلى مشارف الحل النهائي ، فضلا ً عن مسئوليتهم ” الوطنية ” تجاه شعبهم في قضايا التنمية البشرية، ذات المتطلبات العاجلة والمستقبلية في آن . وهو بالضبط ما أدي – في نهاية المطاف – إلى الوضع الذي غطرشت الأيديولوجيا فيه على حماس أن تعيه ؛ فإذا بها تخلط بين واقعها كحكومة مسئولة ، وبين عقيدتها كحركة مقاومة حتى راحت تشجع عناصرها لممارسة عملياتها الانتحارية لا ضدا ً على معسكرات جيش الاحتلال ، بل على الحافلات والمطاعم والمدارس ودور السينما …الخ الأمر الذي استهجنه العالم في كل مكان ، بل ووسم بسببه حماس بميسم الإرهاب ، حين كانت إسرائيل هي الأولى به .
فهل يمكن أن تعد هذه التكتيكات الحمساوية أعمال َ مقاومة ٍ وطنية ٍ ؟ أم تجليات ٍ لإستراتيجية عنوانها الفرار
من الوطن واستحقاقاته السياسية ، التذاذا ً “عوليسيا ً” بالتيه في بحار الأساطير القديمة؟ بغرض الوصول لوطن بديل، أين ؟..سيناء مصر مثلا ؟! سؤال موجه إلى ولي أمر حماس في بحار التيه الأسطورية، وأعني بذلك جماعة الأخوان أصحاب مشروع النهضة!