في عام1856،ومن خلال كتابه “النظام القديم والثورة”الذي كان تدشيناً لأول دراسة علمية عن آليات الثورات،كتب أليكسيس دوتوكفيل الكلمات التالية عن ثورة1789الفرنسية:”الثورة هي حفز وتسريع،عبر انفجار،تصعد من خلاله إلى السطح كل الاتجاهات الكبرى التي كانت نامية في رحم النظام القديم” : يحدد توكفيل عملية حبل النظام القديم بجنين واحد كانت ثورة 1789لحظة ولادته الانفجارية:توحيد الحياة الوطنية من خلال الدولة المركزية على حساب النفوذ المحلي للأرستقراطية والاقطاعيين والكنيسة.
يرى توكفيل أن الثورة ماكانت لتنفجر في يوم14تموز1789لولامحاولات لويس السادس عشر(تولى السلطة في عام1774)معاكسة هذا الاتجاه الذي مشى معه لويس الرابع عشر(1642-1715)ولويس الخامس عشر(1715-1774)،كمايرى أن اتجاه المرحلة الانتقالية مابعد الثورة التي تميَزت أساساً بالمركزة الشديدة وتحديث القوانين من خلال نابليون بونابرت(1799-1815) قد كانت المحدِدة لضفتي الصراع بين أنصار النظام الجديد وذلك القديم،سواء في مرحلة 1789-1815أوفي مرحلة عودة آل بوربون التي أنهتها ثورة تموز1830بانتصار الاتجاه الجديد،ولوأن توكفيل يرى أن قتال الفرنسيين على الحيثيات التفصيلية للنظام الجديد لم ينته حتى عام كتابته لذلك الكتاب،وهو عملياً أمر لم يحسم كانتقال إلافي عام 1889 سياسياً مع فشل الحركة البولانجية ضد النظام الجمهوري وفي عام1904مع العلمنة التي فصلت الكنيسة عن الدولة.
في العالم العربي،كان هناك جنين ينمو،خلال العقود الأربعة الماضية، في رحم النظام القديم الذي أعطته الجمهوريات العسكرية في أنظمة مصر(1952)والجزائر(1962) وسوريا(1963)وتونس(1987):اتجاه عند الفئات الوسطى،المدينية والريفية،لتحجيم هيمنة الدولة الشمولية على الحياة الاقتصادية- الاجتماعية- الإدارية- الثقافية- السياسية،هذه الهيمنة التي كان مفتاحها عند العسكر العرب هو الامساك عبر الانقلاب العسكري بآلة الدولة ،التي حوَلوها إلى سلطة مطلقة شملت تك المناحي الخمسة للمجتمع. في أعوام1979-1982كان الانفجار السوري هو الإرهاص الأول بهذا الحبل قبل أن يجهض الجنين عبر حل أمني مارسته السلطة،مدعومة بغطاء دولي- اقليمي شمل واشنطن وموسكو والرياض وطهران،فيمالم يكن من القوى الاقليمية مع الحركة الاحتجاجية السورية ،التي شملت الفئات الوسطى المدينية في حلب وحماة واللاذقية وبلدات محافظة ادلب من دون المدن الأخرى وعموم الريف ومن دون تجار دمشق وأقل منهم قليلاً تجار حلب،سوى بغداد وعمَان.حصل الانفجار الثاني في الجزائر أثناء اضطرابات أوكتوبر1988ضد نظام الحزب الواحد الذي كان يتلطى وراء ستاره العسكر:انحنت السلطة أمام هذه الرياح الاجتماعية عبر دستور فبراير1989الذي أقَر التعددية الحزبية،قبل أن يقوم العسكر بانقلاب11يناير1992الذي قطع فوز الاسلاميين بالمسار الانتخابي،مماأدخل الجزائر في حرب أهلية لعشر سنين ،خسر فيها طرفاها،العسكر والاسلاميون،وكان الفائز الوحيد هو رئيس مدني أتى به العسكر في عام1999لكي يحكموا من ورائه،قبل أن يتحرر من شباكهم بين أعوام2002و2012. لم يحصل في تونس ومصر هذا الانفجار بحكم التنفيس للقوى الكامنة عبر (نمط الديمقراطية المحدودة)الذي اتبعه الرؤساء السادات ومبارك وبن علي،قبل أن يصل هذا النمط إلى تضييق كبير لمساحة الحريات في أعوام1991-2010بتونس وبمصر في فترة2005-2010،وهو ماأدى إلى أن يكون الانفجار أول مايحصل بهذين البلدين،فيماكانت تجربة1979-1982المجهَضة محدِدة للكثير من مسارات الحراك السوري في2011و2012 الذي تركز في الريف السني وفي البلدات الصغيرة التي هي أقرب إلى الريفية منها للمدينية(دوما- البوكمال- جسر الشغور- القصير) وفي المدن المهمشة اقتصادياً(حمص- درعا – ديرالزور) ،بينماكانت تجربة1988-2002هي التي قادت إلى “الاستثناء الجزائري” في موجة “الربيع العربي” بعام2011 وفي تكرار هذا الاستثناء من حيث عدم فوز الاسلاميين الجزائريين بانتخابات10مايو2012 .
في تونس ومصر ماكان للثورتين أن تنجحا باسقاط رأس النظامين في 14جانفي2011و11فبراير2011 لولا حياد المؤسسة العسكرية في اللحظة الأخيرة،وهذا ماأدى إلى أن تكون القوتان الأكبر في البلدين أثناء المرحلة الانتقالية لمابعد الثورتين التونسية والمصرية هما العسكر(أقوى مؤسسة متبقية من النظام القديم،وبعدها في القوة الجهاز الإداري) والاسلاميون الذين كانوا القوة السياسية الأكبر في حراك الثورتين ثم في صناديق اقتراع التونسيين والمصريين.
هذا التعايش،الذي يبدو أنه تحت رعاية واشنطن، كان سلساً بين العسكر والاسلاميين في تونس، فيماكان كذلك مابين يومي سقوط مبارك ونتائج انتخابات مجلس الشعب،وليبدأ بعد هذا بالظهور توتر صار يطفو إلى السطح في حوادث متفرقة،أوفي محطات مفصلية مثل (آليات تشكيل هيئة صياغة الدستور)و(الانتخابات الرئاسية)،يمكن القول بأنه وصل إلى صدام العسكر والاسلاميين ، الذي أصبح منذ فبراير2012هو المحدِد الرئيسي لمجرى الحياة السياسية المصرية.
في تركية2002-2011كان هذا التعايش قائماً بين الاسلاميين والمؤسسة العسكرية،وتحت رعاية واشنطن أيضاً،قبل أن تميل الكفة منذ خريف 2011لصالح رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان،وقد كان هذا التعايش القلق والصراعي هو مفتاح السياسة التركية في العشر سنوات المنقضية:في أيار1960دفع رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس،وحزبه الفائز بثلاث انتخابات برلمانية منذ عام 1950وهو الحزب الذي كان يجمع نقيضا الأتاتوركية:الليبرالية ونزعة اسلامية معتدلة، ثمناً غالياً لماثارت ضده القوى الانقلابية العسكرية الأتاتوركية،وفي شباط 1997نجحت المؤسسة العسكرية ثانية في الإطاحة،عبر انقلاب أبيض،برئيس الوزراء الاسلامي نجم الدين أرباكان . لم تستطع هذا مع أردوغان،الذي يبدو أن الموازين الاقتصادية- الاجتماعية،التي يمثل الصعود السياسي الانتخابي لحزبه في ثلاث انتخابات برلمانية سابقة منذ عام2002تعبيراً عنها،قد أصبحت تميل إلى غير رجعة لصالح الفئات الوسطى المدينية في مدن اسطنبول وأنقرة وملاطية وقيصرية وقونية ومدن ساحل البحر الأسود ،وهي التي تشكِل الخزان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والبلدية لأعوام2002-2011،ضد أغنياء مدن أنقرة وإزمير والقسم الأوروبي من اسطنبول ،وملاكات الإدارة الآتون من هذه المدن الثلاث الذين شكلوا مع هؤلاء الأغنياء، منذ انقلاب أيار1960،الجسم الاجتماعي الواقف وراء العسكر العلمانيون الأتاتوركيون.
في تركية1960-2011كان هذا صراعاً،بأدوات أيديولوجية- سياسية- حزبية،بين قوى النظام الأتاتوركي القديم (التي ظلت مترددة أمام هذا الجنين النامي،واقتصرت على إعاقة نموه بين عامي1987و1997،بدلاً من اجهاضه كمافي عام1960)وبين الجنين الاسلامي الجديد الذي نما في رحمه،قبل أن تنجح القابلة،التي اسمها رجب طيب أردوغان،في توليد هذا الجنين،وهو مافشل فيه كل من مندريس وأرباكان.
كيف ستكون مآلات هذا الصراع في المرحلة الانتقالية المصرية الراهنة؟………