مددت يدي إلى جيب سترتي و أخذت منها الصورة… نظرت إليها بإمعان أتفحص تفاصيلها الدقيقة و كأني أبحث فيها عن شيء …شيء ما يمنعني من تمزيقها. لا أخفيكم سرا إذا قلت لكم أنا أكره هذه الصورة و لقد حاولت مرة و أنا في مكتبي أن أمزقها، غير أنني لما هممت بذلك انفتح باب النافذة بقوة أفزعتني و جعلتني أؤجل الأمر إلى الغد، و في الغد حاولت الإمساك بالصورة و تمزيقها، غير أنني لم أنتبه إلى الفنجان الذي كان فوق مكتبي فسقط محدثا صوتا مزعجا أربكني بادئ الأمر، فتوقفت لحظة أنظر إلى الصورة من جديد و قلت في نفسي: لابد أن أنهي هذا الأمر اليوم لأعيش بسلام… ما هي إلا حركة بسيطة و ينتهي الأمر، غير أن عبد الرحمان دخل إلى مكتبي و هو غاضب، و بدأ يصرخ في وجهي و يلعن اليوم الذي عرفني فيه. أحسست بنوع من الرهبة و بأن لعنة هذه الصورة ستظل تلاحقني…تخيلت أن صاحبة هذه الصورة تنظر إلي باحتقار من داخل قبرها. طردت هذه الفكرة من ذهني و شردت بعيدا… رحلت بذاكرتي إلى القرية التي شهدت ميلادي و أيام صباي الأولى.
…كنت أعيش أنا و أمي و كان الفقر يقتات من لحمنا. كنت أساعدها في جلب الماء من البئر. كان هذا هو العمل الوحيد الذي تطلب مني القيام به ، لكني رغم ذلك لم أكن أقوم به عن طيب خاطر . لقد كنت أخاف من البئر و كنت حينما أدلي الدلو أحرص على عدم ملئه بكامله… كنت أتصور أنني إذا ملأته فسيجرني هو إلى داخل البئر عوض أن أجره إلى خارجه و كان أطفال القرية قد لاحظوا خوفي فأصبحوا يتجمعون حولي كلما رأوني قرب البئر و يتضاحكون… و كنت كلما نظرت إلى عيونهم أرى نظرات السخرية و التهكم. باختصار: أصبحت أضحوكة القرية. رغم ذلك لم تعفني أمي من هذه المهمة البغيضة. كانت تقول لي في كل مرة بأنه علي أن أتغلب على خوفي و علي أن أبين لهم جميعا بأنني قوي و بأنني رجل لكي يكفوا عن السخرية مني. تحول كرهي للدلو و للبئر إلى كره لأمي و للقرية و تحول هذا الكره إلى كابوس يؤرق مضجعي، غير أن هذا الكابوس تبدد يوم رجع أبي من المدينة بعد طول غياب. أذكر ذاك اليوم بوضوح، و بكل تفاصيله… فبينما كنت أتصارع مع الدلو لجلبه إلى خارج البئر رأيت أبي آتيا .. كان يركب عربة الحاج موسى. من شدة فرحي تركت الحبل ينزلق من يدي ليحدث صوت ارتطام الدلو بقاع البئر ضجة في أذني . جريت نحو أبي قبلت يده و حملت بكل زهو القفة الثقيلة التي جلبها معه. لما دخلنا البيت و جلسنا فوق الحصير مد أبي يده إلى القفة و أخذ بعض الحلوى و مدها نحوي. خطفتها من بين يديه و خرجت أمام البيت لآكلها بنهم أمام أطفال القرية الذين بدؤوا يلحون علي في أن أناولهم القليل منها، قهقهت عاليا و قذفت بكل ما تبقى في يدي إلى فمي و أنا أحاول أن أغيظهم. سمعت أمي تناديني فدخلت إلى البيت. مد أبي يده من جديد إلى القفة و أخذ منها حذاء و طلب مني بأن أزيل الصندل المتمزق الذي كنت أنتعله. طار قلبي فرحا. أزلت الصندل من رجلي و وضعت بدله الحذاء و طرت إلى أطفال القرية أمشي بخيلاء و أنا أحاول أن أرفع رجلي إلى الأعلى لكي يتمكن الجميع من رؤيته. رأيت نظرات الحسد في عيونهم. طلب مني بوشعيب أن أدعه يلبس الحذاء قليلا فلما امتنعت أخذ حجارة و رماها في وجهي هربت منه و دخلت الدار و أغلقت الباب. لما رآني أبي قال لي ضاحكا: عبد القادر .هل أغظت رفاقك بحذائك الجميل ؟ قلت له مزهوا: نعم. فقال لي: عندي لك هدية أخرى ستعجبك كثيرا، و مد يده مرة أخرى إلى القفة و أخذ منها آلة تصوير و قال لي: هل تدري ما هذه ؟ إنها آلة تصوير. قلت بفرح بالغ: إنها تشبه آلة التصوير التي يملكها ابن الحاج المعطي. أريد أن أتدرب على استعمالها. قال لي أبي: إن استعمالها جد سهل ما عليك إلا أن توجه آله التصوير إلى الشخص الذي تريد أن تأخذ له صورة و تضغط على هذا الزر. أمسكت آلة التصوير و أخذت صورة لأبي ثم التفت إلى أمي التي كانت تعد الشاي و دموعها على خديها و أخذت لها صورة. أذكر ذاك اليوم لقد بكت فيه أمي بحرقة حينما أخبرها أبي بأنه سيأخذني إلى المدينة لأعيش معه و مع زوجته و أذكر أنها رجتني طويلا كي أبقى معها ، غير أنني لم أهتم برجائها. كان حلمي بأن أعيش في المدينة أقوى من دموع أمي. رحلت مع أبي و سقطت أمي من ذاكرتي كما تسقط أوراق الخريف من الشجر. بعدها بمدة ماتت أمي. لم أعلم بالأمر إلا بعد عامين من موتها. أحسست بثقل يجثم فوق قلبي جعلني أبحث بين أوراقي عن صورة أخذتها لها يوم ودعتها. وجدت الصورة لم أقو على تقبيلها… و هي اليوم سجينة جيب سترتي. لا تفارقني. أصبحت مدمنا على النظر إليها كلما متسعا من الوقت…أصبحت سجين الصورة.