صخب عنيف يصدر من أفواه عديدة ….كانت جريرتي إني أطلقت قهقهة عالية بوجه البهتان ثم مضيت بطريقي …. طريقي محفوف بمنحدرات قاسية لذلك كنت أسير ببطء ….كتبت اعلانا في الصحف والمواقع باحثا عن عصا أتكئ عليها …….
شهق الجميع حين أعلنت قراري…. انها رغبتي التي عبرت بها عن برد صمتي …حين انتحر الدفء بداخلي …..
تجمهر الناس حولي بين مغتبط في سره …وبين لائم بصدق ..فيما لاذ الاخرون بصمتهم ……لكني حسمت امري …..أن أكتب بلا تردد……فصمتي لا يصب في مجرى انسانيتي ……
استيقظت فجرا لأجد نفسي داخل زنزانة مظلمة تتدلى فوق نوافذها أغصان شجرة قريبة امتدت أغصانها داخل الزنزانة كان الهواء يحركها فتميل يمينا وشمالا فتحولها خيالاتي الى أفاع متدلية تتحين اللحظة المناسبة لتنقض على رقبتي مضيت ليلتي أراقبها بقلق…..حتى تسرب الخوف بين مسامات عقلي فشل تفكيري وأوهنت الظلمة روحي شيئا فشيئا ….
يدخل سجاني …. يلوح بعصاه ….فيجلد كل من تسول له نفسه ان يبتسم ….ويرضى كل الرضا عمن يبكي بشدة وينتحب . ويتوسل…
بحذر شديد كنت أراقب سجاني وهو يغط بنومه العميق تدل ملامحه على هدوئه واستقراره ….أما طبقه المفضل عند الغداء فهو حساء الغزال الساخن يرتشفه وهو يستمع لقراءة مرافقه الشخصي لدفاتر حساباته …. …عندها يندلق الحساء من بين جانبي فمه …..
لم أتعود النفاق ….! …..بل تعودت على صمت القديسين ….فقد تعلمته كما اتعلم الصنعة …..وحين أختلي بنفسي تبدأ مرحلة هذياني وخيالاتي ….. فأسمع أصوات الموتى وصراخ أمي خلف جنازة أبي …..أتذكر المشيعين كانوا في حالة من الصمت الجليل لحظة انزال جثته …..يتعالى صوت الدفان ملقيا وصيته لروح أبي يلقنها ما ينبغي قوله ساعة الحساب.. بينما تنزل الجثة الى أسفل …..لتختفي في شق طولي على أحد جانبي الحفرة …..
انتزعت صورة ذلك المشهد كل مخاوفي من الموت ….ومن السجن والسجان ….
لكنها لم تنتزع تأملاتي وهيامي وأحلامي ولم تجعلني رجلا عاجزا لاني كنت أعرف كيف أوجه دفة قاربي ….
سجين أنا منذ مدة لا أعرفها …..لجرم لا أعرفه ولأسباب ومقدمات لا أعرفها أيضا …… شحيح زادي حين يصل غرفتي …. فهو بالكاد يسد رمقي أو لا يسد …!!
في ساحة فسيحة خالية الا من بعض شجيرات الاس والأزهار المتفرقة كان يطلق سراحي مع بقية السجناء وهذه الفسحة تحدث خلال فترات متباعدة ….أحيانا يلتقي السجناء بزائريهم والبعض الاخر ليس لهم من يزورهم ….. كذلك انا لم يبق من يزورني ..
أرفع رأسي صوب الفضاء حالماً ….أغرق بتأملي نحو ضوء الشمس وزرقة السماء ….أتامل شواطئ دجلة التي تراءت من بعيد منسابة هادئة حالمة هي الاخرى ……
…..أحسست بحرج شديد حين التقت عيناي بعينيَ خطيبتي التي فارقتها قسرا وانهينا خطوبتنا منذ عام.. وكل ظني ان لاتلاقيا !!
….حضرتْ توا لزيارتي …يا لدهشتي …..انها لم تتغير بل أصبحت أجمل .القت بتحيتها باسمة الوجه بينما انسابت مني دمعة خجلة مسحتها على استحياء …..
كانت هدية حبيبتي لوحة كتب فيها بخط مذهب أنيق ( وقطَعناهم أثنتي عشرة أسباطا أمما ) ….
أصبحت مستاءا قلقا لا أستقر بمكان فلم أنتبه لمسألة ضيافتها رغم حاجتها لكأس ماء بارد في ذلك الصيف القائظ …….صاحت بانفعال شديد …..تصرفك غير لائق ولا يدخل ضمن قناعتي ….أتحاول الصمت هاربا من تعفن غدر المتاهة …..؟؟
قاطعها صوت شيخ وقور كان صامتا يحدق بعينيه الصغيرتين الحادتين مكتفيا بتحريك خرزات مسبحته …..دعوني أصلي من أجله …..
ولكن .. ربما… لحسن حظي.. او بسبب صلاة الرجل الوقور.. او بسبب صبري وقدرتي على التحمل…. او نقاء ضميري .. وحسن طويتي.. وبياض وجداني.. قررت إدارة السجون استغنائها عن خدمات السجان وإبدال طاقمه…
تذكرت كلكامش وبحثه عن عشبة الخلود وكيف كان يصارع الاسود والنمور في الوديان والبراري وفي غابة الارز …..لكني سأبحث عن جحر أتوارى فيه ….سأبحث عن عشبة النسيان لكل كتاب قرأته ولكل فلسفة امنت بها ولكل ذكرى جميلة مررت بها في حياتي
زيارة خطيبتي الثانية غيرت مجرى حياتي …..فقد جلبت لي عشبة غريبة من نوع خاص تحمل اشعاعها لمن يحيط بي أيضا …ما كاد مفعولها يسري بمسامات جسدي وعقلي ….حتى احسست اني املك رصيدا عاليا من الحكمة والدهاء …… فيها سر لايعلمه إلا من كان مظلوما ….وحين نادى السجان باسمي شعر بتخبط افكاره وارتعاشة يديه وتزايد ضربات قلبه ….
وأصدر قاضيهم حكما جائرا ضدي …..لكنه لم يستطع تنفيذ بنوده لاني ببساطة تامة بدأت أتكاثر بالانشطار في كل ليلة …..فكل خلية في جسدي تتحول لشاب يافع أو حسناء تتباهى بجمالها …..
ها انا اتكاثر كما تتكاثر الشعوب الحية.
. وأتسلل من بين اسلاك شبابيك السجن الشائكة.
. وأطير كما تطير الفراشات..
وأنشد اناشيد الامل.
.وأكرس مفاهيمي الجديدة.
. وأعود لخطيبتي… ونعيد اقتراحاتنا في ترميم بيتنا..
سنية عبد عون رشو