
شفا – من قلب الجزائر العاصمة، حيث تتقاطع التطلعات التنموية مع نبض الحياة اليومية، ترتفع ملامح جديدة تعكس شراكة تتجاوز حدود الجغرافيا. هنا، لا تكتفي المشاريع بالتوسع على الأرض، بل تمتد رمزيا إلى السماء، ترسم على الأفق ثمرة تعاون مثمر بين الصين والجزائر.
في المقر الجديد لوزارة السكن والعمران والمدينة الجزائرية، اصطحبتنا الشابة الصينية هوانغ شي جيه، ذات الستة والعشرين ربيعا، في جولة تعريفية بالمشروع الذي تتولى شركتها تنفيذه، بخطى واثقة ونبرة يملؤها الاعتزاز، كانت ترسم لنا ملامح الحلم العمراني الذي بدأ يتجسد على أرض الواقع.
وسط العاصمة الجزائرية النابضة بالحركة، تجري اللمسات الأخيرة على مقر الوزارة الجديد الذي من المتوقع تسليمه للطرف الجزائري خلال أربعة أشهر تقريبا، كان العمال ينظفون بعناية الأرضيات ذات النقوش المتقنة، بينما يتنقل المهندسون بين الطوابق لضبط المعدات المختلفة بدقة، وقد اكتمل العمل على الواجهة الخارجية للمبنى، في حين أصبحت معظم المرافق الداخلية جاهزة للاستخدام.
وقالت هوانغ، وهي تخاطبنا من داخل القاعة الواسعة بالطابق الأرضي للبرج الرئيسي: “لقد جلبنا أحدث التقنيات والمعدات الصينية لبناء مكاتب ذكية وحديثة في هذا المبنى، جميع أنظمة التحكم في الدخول، والتكييف، وغيرها من المرافق، تم استيرادها من الصين”.
شُيد هذا المشروع الضخم من قِبل فرع الشركة الصينية العامة للهندسة الإنشائية (CSCEC) في الجزائر، ويتكون من برج بارتفاع 26 طابقا، إلى جانب مبنيين منخفضين من 9 طوابق، ومبنى مخصص للمؤتمرات يتألف من 6 طوابق.
صُمم البرج على شكل الحرف الإنجليزي “H”، مع جدران زجاجية زرقاء مُثبتة في الأعلى وعلى الجوانب، لإدخال الضوء الطبيعي، يقف البرج الرمادي شامخا في مشهد يتناغم مع الحداثة ويُبرز جمال التفاصيل، بينما زينت المباني القاعدية على الجانبين بزخارف ذهبية، تُضفي لمسة من الفخامة على هذا المشروع المعماري المتميز.
يرتفع البرج في وسط مدينة الجزائر، حيث تُهيمن المباني البيضاء على المشهد العمراني، كمنارة عصرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، من بعيد، يُحاكي المبنى ظلال مقام الشهيد، والنصب التذكاري لأبطال حرب الاستقلال الجزائرية وجامع الجزائر الأعظم ثالث أكبر جامع من نوعه في العالم، حيث يشكلون معا أفق هذه المدينة الساحلية الواقعة في شمال إفريقيا.
تم بناء المقر الجديد، إلى جانب الجامع الأعظم ومطار هواري بومدين الدولي الذي يقع على مقربة من وسط المدينة، بواسطة شركات صينية، في تجسيد حي للصداقة المتينة والتعاون الوثيق بين الصين والجزائر.
وفي مركز قيادة المشروع المجاور للمقر، قال المهندس الجزائري وليد حمزة، البالغ من العمر 33 عاما: “التكنولوجيا المقاومة للزلازل التي قدمتها الشركة الصينية تتحمل زلازل تصل إلى قوة 8 درجات، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام هذه التكنولوجيا المتقدمة في الجزائر”.
انضم حمزة إلى فرع الشركة الصينية العامة للهندسة الإنشائية في الجزائر قبل ست سنوات، بعد أن عمل في شركة إنشاءات جزائرية وأخرى كندية، ومنذ انضمامه إلى الشركة الصينية، حصل على ترقيتين بفضل أدائه المتميز، تلاهما زيادة في راتبه بنسبة 15 بالمئة بعد الترقية الأولى و10 بالمئة بعد الثانية.
ويتفاعل الشاب الطموح ببساطة وسلاسة مع زملائه الصينيين، ولتسهيل التواصل في موقع العمل، تعلم العديد من المصطلحات الصينية المرتبطة بالبناء، بالإضافة إلى أحد أطباقه المفضلة من المطبخ الصيني.
وقال حمزة بطلاقة: “قانغجين (حديد التسليح)، شويني (الخرسانة)، وجياوتسي”، وأثناء حديثه عن المنتجات الصينية، أرانا هاتفه الذكي من نوع شاومي، وأخبرنا بفخر أنه اشترى سيارة صنعتها شركة “جريت وول موتور” الصينية.
لكن العمل في شركة صينية لا يخلو من التحديات، إذ قال حمزة مازحا وجادا في آن واحد: “الضغط!”، وأضاف: “الكفاءة هي إحدى نقاط قوة الشركات الصينية، زملائي الصينيون لديهم معايير عالية جدا، فيما يتعلق بتقدم المشاريع وجودتها”.
لم تقتصر إنجازات الشركات الصينية في الجزائر على بناء ناطحات السحاب والمطارات الحديثة، بل امتدت أيضا لتشمل مجالات تعاون أوسع مع الجانب الجزائري.
مع تعمق التعاون بين البلدين، تقدم الشركات الصينية التكنولوجيا المتطورة والخبرة الواسعة، مما يضخ زخما قويا في تطوير الاقتصاد المحلي.
وحسبما صرح قنغ داو جين، المدير العام لفرع شركة الصين لإنشاءات الهندسة المدنية (CCECC) في الجزائر، “قبل عشرة إلى خمسة عشر عاما، كانت الشركات الصينية تنخرط بشكل أساسي في بناء مساكن الرعاية الاجتماعية ومشاريع الطرق، أما اليوم فقد توسع نطاق عملها ليشمل مشاريع الطاقة المتجددة، ومراكز البيانات، والكهرباء، والسكك الحديدية، ومشاريع الاتصالات، بالإضافة إلى المباني الحديثة مثل المقر الجديد لوزارة السكن”.
أما تشن شاو تشن، نائب المدير العام للشركة، فقد أشار إلى تعمق وتطور التعاون بين الصين والجزائر، قائلا “في السنوات الأخيرة، شهدنا تعاونا متزايدا بين البلدين في مجالات مثل السكك الحديدية، والتحول الرقمي، والتطبيقات الذكية”.
وعند مناقشة أسباب نجاح التعاون المثمر بين الصين والجزائر، قال تشن “لقد التزمت الشركات الصينية دوما بمفهوم التنمية عالية الجودة، وهذا الالتزام المستمر بالجودة هو ما منحنا تقديرا واسعا واعترافا من المجتمع المحلي”.
لا يمكن فصل التعاون المزدهر بين الصين والدول الإفريقية، بما في ذلك الجزائر، عن التفاني والمساهمات التي قدمها العديد من المهنيين الصينيين مثل قنغ وتشن، الذين كرسوا سنوات، بل عقودا، في خدمة التنمية الاقتصادية المحلية، مما أسهم في دفع التعاون بين الصين وإفريقيا قدما في شتى المجالات.
وخلال زيارة قام بها وفد من صحفيي وكالة أنباء ((شينخوا)) إلى الجزائر، كان منتدى الأعمال الجزائري- الصيني للاستثمار يُعقد في المركز الدولي للمؤتمرات بالعاصمة الجزائر، هذا المركز، الذي أنشأته أيضا شركة صينية، أصبح اليوم معلما بارزا يشهد على تنامي التعاون بين البلدين.
وفي قاعة المؤتمر المزدحمة بحوالي 600 مشارك، قدّم أحد مسؤولي الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار، شرحا لسياسات الحكومة المتعلقة بالحوافز الاستثمارية، مما أثار اهتماما كبيرا بين رواد الأعمال والمستثمرين الصينيين الذين أبدوا حماسا لاقتناص فرص الاستثمار، ووقفوا مرارا لالتقاط الصور وتوثيق تفاصيل العروض التقديمية.
وفي كلمته أمام المنتدى، قال وزير الصناعة الجزائري، سيفي غريب، إن التعاون بين الجزائر والصين في مختلف القطاعات قد وصل إلى مستوى مرضٍ وحقق نتائج رابحة للطرفين منذ عام 2014، وهو العام الذي تم فيه ترفيع العلاقة الثنائية إلى شراكة استراتيجية شاملة.
وأكد سيفي غريب على أن الجزائر، من خلال الجهود المشتركة والحوار المستمر، تأمل في مواصلة تعميق التعاون الاقتصادي والتجاري مع الجانب الصيني.
وخلال الفعالية، وقعت شركات صينية وجزائرية اتفاقيات لثمانية مشاريع استثمارية في الجزائر، باستثمارات أولية تجاوزت ملياري دولار أمريكي.
وكان كارلو موري، مشرف مشروع شركة تشجيانغ تشيانجيانغ الصينية المحدودة للدراجات النارية في الجزائر، قد تمت دعوته لحضور حفل توقيع اتفاقية تعاون بين الشركة وإحدى الشركات الجزائرية، حيث قال بثقة بعد التوقيع “تعاوننا يعد بداية رائعة”.