
الجمعيات التعاونية ، جبهة مدنية لحماية الأرض وتعزيز الصمود في مناطق (ج) ، بقلم : د. عمر السلخي
في ظل التصاعد غير المسبوق في وتيرة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وازدياد المساحات المصنفة (ج) المهددة بالمصادرة، يبرز العمل التعاوني، وخاصة الزراعي منه، كأداة استراتيجية فعّالة لتعزيز الوجود الفلسطيني، وتثبيت السكان في أرضهم، وتشكيل اقتصاد مقاوم في مواجهة مشاريع الضم والتفريغ.
مناطق (ج): الخزان الأرضي المستهدف
تشكل مناطق (ج)، التي تغطي نحو 60% من الضفة الغربية، العمق الجغرافي والاقتصادي الأساسي للريف الفلسطيني. لكن هذه المناطق، الواقعة تحت السيطرة الإدارية والأمنية الكاملة للاحتلال، تُعد اليوم الساحة الأبرز للمواجهة، حيث يركّز الاحتلال مشاريع الاستيطان والبؤر الجديدة، والطرق الالتفافية، والمناطق العسكرية، ضمن هذه المناطق، لتفكيك التواصل الجغرافي الفلسطيني، وتقويض أي إمكانية لإقامة دولة ذات سيادة.
العمل التعاوني: استراتيجية شعبية للصمود
في هذا السياق، تُعيد الجمعيات التعاونية الزراعية تقديم نفسها كأداة لمقاومة ناعمة، تجمع بين تمكين الناس اقتصاديًا، وتثبيتهم على الأرض، فالتعاونية ليست فقط وحدة إنتاجية، بل هي نموذج اجتماعي قائم على التضامن، والإدارة الذاتية، وإعادة توزيع الموارد بما يحقق قدرًا من العدالة والتنمية المجتمعية، حتى في أحلك الظروف.
الجمعيات التعاونية: البعد الاقتصادي للمقاومة
تقدّم التعاونيات الزراعية في سلفيت، وفي الضفة عمومًا، نموذجًا اقتصاديًا للمقاومة المدنية، فهي: تحمي الأرض عبر الزراعة الدفاعية واستصلاح الأراضي المهددة، تعزز الأمن الغذائي، خصوصًا في مناطق مثل نبع المطوي وعين فرخة، وسهل ديربلوط، التي تُعد سلالًا غذائية مهددة، تخلق فرص عمل بديلة للشباب، في ظل بطالة تجاوزت 28.4% في الضفة الغربية، و41.7% بين الخريجين، تعزز الاقتصاد المنتج وتقلل التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، إذ أن فقط 7% من الشباب الفلسطيني يعملون في الزراعة.
التحديات البنيوية: من الاستعمار إلى غياب الدعم الوطني
يعاني القطاع التعاوني، لا سيما الزراعي، من عراقيل معقدة تتداخل فيها السياسات الاستعمارية مع القصور المؤسسي المحلي، ويمكن تلخيص أبرزها في:
⦁ المعيقات الاستعمارية: مصادرة الأراضي، حرمان التعاونيات من حفر الآبار، وإغلاق الطرق الزراعية، وهجمات المستوطنين.
⦁ غياب البنية التحتية: ضعف شبكات الري، وندرة الكهرباء، وصعوبة تسويق المنتجات.
⦁ الإهمال الرسمي: قلة التمويل الحكومي، غياب الحوافز، وافتقار الخطط التنموية لدمج التعاونيات.
⦁ التشتت القانوني والإداري: ضعف الإطار التنظيمي، وعدم التكامل بين الجهات المشرفة على التعاونيات.
⦁ الهيمنة الفردية والموسمية: غياب الرؤية الجماعية لدى بعض التعاونيات، وضعف الحوكمة الداخلية.
الشباب والتعاونيات: فرصة لاقتصاد إنتاجي بديل
تشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن نسبة البطالة بين الشباب في الضفة الغربية تجاوزت 28%، وتصل إلى أكثر من 40% بين خريجي الجامعات. في المقابل، لا تتجاوز نسبة الشباب العاملين في الزراعة والصناعة مجتمعين 16% فقط، ما يعكس اختلالًا في أولويات التشغيل وسياسات التعليم والتخطيط.
رغم ذلك، ظهرت خلال السنوات الأخيرة مبادرات شبابية جديدة لإنشاء تعاونيات إنتاجية – خاصة زراعية – في نابلس، الخليل، رام الله، طوباس، وطولكرم، وغيرها، تركّز على الزراعة البيئية، الأعشاب الطبية، الصناعات الغذائية، الزراعة العضوية، ومزارع الزيتون والعنب، وذلك كمحاولة للتصدي لليأس الاقتصادي والبحث عن نماذج بديلة.
التعاونيات كأداة حماية لمناطق (ج)
ان العمل التعاوني يشكل ركيزة فعلية لحماية الأرض والهوية الوطنية في مناطق (ج)، لعدة أسباب منها: تثبيت الوجود الفلسطيني في المناطق المستهدفة بالاستيطان، عبر الزراعة الدفاعية والمشاريع الجماعية، توفير دخل ثابت وبديل للعائلات المهددة بالفقر أو النزوح، تعزيز الاقتصاد المحلي المنتج وتقليل التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، تمكين المرأة والشباب في المجتمعات الريفية المهمشة، بناء قاعدة ضغط قانونية وإعلامية للدفاع عن الأراضي أمام المؤسسات الدولية.
نحو استراتيجية وطنية للتمكين التعاوني
لتحقيق تحول فعلي في دور التعاونيات، تيمكن تبني حزمة سياسات وطنية تشمل: دعم مالي مستدام للتعاونيات العاملة في مناطق (ج)، خاصة الإنتاجية منها، وإنشاء صناديق تمويل تشاركي تضمن تعويض التعاونيات المتضررة من الاستيطان أو الكوارث، إضافة الى إصلاح الأطر القانونية لتسهيل التسجيل، الإعفاء الضريبي، وتسويق المنتجات، والعمل على دمج مفاهيم التعاون والعمل الجماعي في المناهج الدراسية والإعلام الوطني، وتشجيع التحالفات بين التعاونيات ضمن “تعاونية التعاونيات”، لبناء شبكة تبادل ودعم وتكامل.
الأرض تُحمى بالعمل الجماعي
في وقت يُغلق فيه الأفق السياسي، تبقى الجمعيات التعاونية الزراعية واحدة من المساحات القليلة التي تُعيد الاعتبار للعلاقة بين الإنسان والأرض، وتُحوّل الصمود إلى فعل إنتاجي يومي، وإذا ما أُحسن دعمها وتمكينها، فإنها لن تكون فقط وسيلة للبقاء، بل منصة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، ومكوّنًا أصيلًا من معركة التحرر الفلسطيني، فكل بذرة تُزرع ليست فقط من أجل المحصول، بل من أجل البقاء.