
شفا – في مداخلة بحثية بعنوان: “التّحديات الّتي تحول دون تقدّم مسيرة البحث العلمي لطلبة الدراسات العليا في فلسطين”.
تحت إشراف مخبر “بحوث في الأبنية والتصميم والجماليات” بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعيّة.
محاصرون لكنّا نربّي الأمل، نقولُ للشعر: حاِصرْ حصارَك، ونقولُ للنثر: جُرّ البراهين من معجم الفقهاء إلى واقع دمّرته البراهين، واشرحْ غبارَك، هنا فلسطين، ولأجل فلسطين نقول للشعر وللنثر: طيرا معاً كجناحي سُنُونُوَة تحملانِ الربيعَ المباركَ من تُربِ فلسطين إلى تُربِ تونس.
إخواني وأخواتي من الأساتذة العلماء النجباء، وطلبة العلم الأوفياء للقرطاس والقلم، أتشرّف بانضمامي لكم في هذه التظاهرة العلمية المعنونة باليوم الدراسي “قضايا البحث وإشكالياتُه” تحت إشراف مخبر “بحوث في الأبنية والتصميم والجماليات “بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي تترأسه المشرفة على أطروحة الدكتوراه خاصّتي الدكتورة المشرقة دائما نور الهدى باديس من جامعة تونس، فاسمحوا لي أنْ أتوجّه لها بجزيل الشكر والامتنان على عظيم عطائها، والشكر موصول كذلك للفريق العلمي الجادّ ممثّلا بمنسقة هذا اليوم التكويني الدكتورة بثينة بالخاوي من جامعة قفصة، ولميسّرة الجلسة الدكتورة سرور اللّحياني من جامعة منوبة.
أحييكم في هذا اليوم الندي العابق علما وعملا أنا الباحثة غدير الزبون؛ لأحملَ لكم أسمى معاني الحبِّ والأملِ والوفاءِ من أرضِ الإسراءِ أرضِ فلسطين العزّ والإباء إلى أرض تونِس الحبيبة الخضراء فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سعيتُ خلال مداخلتي “التّحديات الّتي تحول دون تقدّم مسيرة البحث العلمي لطلبة الدراسات العليا في فلسطين” إلى تقديم صورة موجزة عن الواقع الراهن للبحث العلمي في فلسطين والذي يقف عقبة أمام طلبة الدراسات العليا، ويحول دون تحقيق حركة بحث علمي نشطة ما يعيق المضي قدمًا نحو الارتقاء بالمجتمع الفلسطيني ومواكبة المستجدات في العالم.
يعودُ ضعفُ الاهتمامِ بالبحث العلمي في فلسطينَ إلى أسبابٍ عدّةٍ سأمرّ عليها على عجلٍ مع الوقوفِ على السبب الرئيس المرهونِ بالاحتلال البغيض.
من تلك الأسباب قلةُ المعلومات من حيث عدم توفر الدوريات والمجلات المتخصصة، وانعدام التنسيق بين المكتبات والجامعات لتوفير المصادر اللازمة للبحوث وارتفاع أسعار الكتب من مصادر ومراجع، والتي يصعبُ تحميلُها موافقةً للمطبوع على مواقع الشبكات العنكبوتية بسبب الانقطاع المستمر لشبكة الإنترنت وضعفها أو الحاجة إلى الدفع المسبق لمواقع المكتبات الرقمية المتخصّصة.
كذلك نضيف إلى الأسباب ما يتعلق بالممارسات الإدارية للجامعات وانقطاع تواصلها مع الطلبة الخريجين في مرحلة البكالوريوس والذين يقفون مكتوفي الأيدي أمام النقلة النوعية لهم في مرحلة الماجستير والدكتوراه، وعدم تخصيص موازنات تشجّع البحث العلمي، وعدم انفتاح الجامعات على المؤسسات المحلية والعالمية لدعم الأبحاث العلمية.
وهناك أسباب أخرى تتعلق بالنشر العلمي ووقوع الطالب ضحية للمجلات المكذوبة والتي يدفع كلّ ما يملك لها مقابل النشر المحكّم، إضافة إلى عدم تفعيل قانون حماية حقوق المؤلف في فلسطين، وضعف إجراءات متابعة التحكيم والنشر من قبل عمادات البحث العلمي ومؤسسات التعليم العالي.
وآخرها، ما يتعلق بالباحث من حيث افتقاره إلى مهارة البحث العلمي وانشغاله بأعباء العمل والحياة الملقاة على عاتقه، وبالتالي انعدام الدافعية لديه بسبب غياب النشر والتقدير الأدبي.
من هنا، نجد أنّ هذه الأسباب على اختلافها عملت بشكل متواصل على خلق بيئة غير مواتية لتطور قطاع التعليم والبحث العلمي عبر الحصار وعرقلة المسيرة التعليمية الأمر الذي يستدعي دقّ جرس الخطر وتكاثف الجهود الحقيقيّة للبحث عن حلول وبدائل تقلل من التحديات والصعوبات التي تقف كسدّ منيع أمام طلبة الدراسات العليا داخل فلسطين وخارجها.
وسأتناول في حديثي اليوم بشيء من التفصيل والإيضاح مشاهداتٍ حيّةً صارخةً تنطقُ بواقع الحال، وتقفُ حروفها شاهدة شهيدة على ما قدّمته في ورقتي البحثيّة المتواضعة؛ لتستصرخ ما تبقّى من أمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ألا وهي الأسباب التي تتعلق بالواقع القهري القسري الذي يفرضه الاحتلال على الأراضي الفلسطينية.
“أنقذتُ كتبي…..”، هذه جملة من بين جمل كثيرة تستوقفنا في كلّ يوم في فلسطين وتقف بهالة حروفها لتؤكّد على أنّنا شعب يحبّ الحياة والتعلّم والبحث ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فلا أستطيع نسيان هذه الجملة لفتاة من غزة لم تتجاوز العشرة أعوام عند سؤالها “ماذا أخذتِ معكِ من بيتك قبل النزوح في هذه الحرب؟”، وبهذه الجملة البسيطة، لخّصتْ ما يعنيه العِلم والتعليم للفلسطيني، حتى في أصعب اللحظات.
خلال الأشهر الماضية، ومع توقف التعليم كلّيّا أو جزئيّا في قطاع غزة الحبيبة وفي مدائن الضفة ومخيماتها المحاصرة الصّامدة، حاول بعض الطلبة استئناف تعليمهم، ولا سيما أصحاب الدراسات العليا، وتحديداً الذين صاروا في مرحلة مناقشة رسالة الماجستير، أو أطروحة الدكتوراه. فتمّت تلك المناقشات، إمّا في الخيام، وإمّا بين ركام البيوت وأطلالها. تلك المشاهد الغريبة عن العالم باتت طبيعية في قطاع غزة العزة وفي توأمها الضفة الذبيحة.
حاولوا ما استطاعوا، ونجحوا، رغم القذائف اليومية التي تمطرهم، ورغم النزوح، وشرود العقل نحو الخوف وأصوات القصف، والتنقل نحو المجهول، ورغم ما حدث لهم إلاّ أنّهم أصرّوا على إكمال الطريق بعنفوان الأمل.
وفي ركن آخر نشاهد طلاب دراسات عليا بذلوا كلّ ما يملكون من مال جمعوه من مصروف جيبهم وجابوا المعمورة ليبتاعوا كتابًا كتابًا حتى أنشأوا مكتباتٍ خاصة بهم؛ لتعتاد أنوفُهم على رائحة الورق تفوح من رفوفها، وسرعان ما باتوا لا يملكون سوى أسئلة وذكريات، فأين هي مكتباتهم الآن؟
كلّ ما يريدونه هو الاحتفاظ بذاكرتهم بالكتب جميلة متماسكة تقف بشموخ على قيد الحياة وأن يقفَ إنسانٌ نجا بعقله الحالم وبجسده الصغير قد يكون طفلا لكي يمنحها تلك الروح التي تحييها، بينما أصبحوا بعيدي الأسفار عنها، فعرفوا أنها تحتضرُ الآن كما تحتضرُ بيوتُهم وبيوتُ جيرانِهم وبيوتُ وطنِهم.
وفي حين يجادل البعض بأنّ التداعيات الأوسع نطاقًا المترتبة على عمليات الاحتلال غير مقصودة، فإنّ التعليم ليس بأي حالٍ من الأحوال ضحيةً عَرَضية للسياسات والممارسات الإسرائيلية.
ففي وقت قصير من تدمير مؤسسات التعليم العالي في غزة عن بُكرة أبيها تطال الانتهاكات المستمرة حرم الجامعات الفلسطينيّة في الضفة وتعيث فسادا لا وصف له وتمطر باحات الجامعات بزخّات من الرصاص والضرب والشتائم والاعتقالات والإغلاقات.
إن هذه الهجمات والاعتداءات الصارخة هي مستمرة تستهدف التعليم الفلسطيني وتقمعه في ظل الاحتلال العسكري في البلاد. فالقيود الإسرائيلية المفروضة على حرية التنقل، والإغلاقات المتكررة للمؤسسات التعليمية، إضافة إلى المساءلات الأمنية وفرض العقوبات وقيود النشر، والتي تأتي كخطوة لاحقة لسيطرة الاحتلال على واقع التعليم في فلسطين بهدف الإيقاع بالمنظومة التعليمية وعرقلة الوصول إلى المعلومات التي تسعى لتعزيز الرواية الفلسطينية وأحقية الفلسطينيين على هذه الأرض.
تقف تلكَ الأسبابُ مجتمعةً لتعوقَ حركة الطلاب الفلسطينيين منذ عقود وتحول دون وصولهم إلى جامعاتهم ومكتباتهم تخيّلوا أنّكم تسافرون معي وأنا أسكن في مدينة بيت لحم، وهي من المدائن المجاورة للقدس العاصمة، فلو أردت الخروج من مدينتي إلى مدينة الخليل أو رام الله أو نابلس أو جنين لزيارة المكتبات الجامعية والانتفاع بمقتنياتها العلمية لأغراض بحثية سأتجرع المرار على حواجز الاحتلال. ولا أبالغ إذا قلت سأصل على مقربة من إغلاق المكتبات أبوابها أمام الزائرين، ولربما يضيع يومي دون هدف محقّق لأعود إلى مسقط رأسي أجرّ أذيال الخيبة والحسرة والانكسار مع حلول الظلام تحت وطأة مضايقات وأعمال ترهيب وعنف على يد المستوطنين والجنود الصهاينة خلال رحلة علم تولد من رحم المعاناة أشبه ما تكون بالنجاة من نيوب الموت المحدّق بالعباد وبالبلاد.
ولم تتوقف الاعتقالات على خلفية مواصلة التعليم حتى يومنا هذا، فقد تعرَّض مئات الطلبة الجامعيين للاعتقال التعسفي والسجن في السنوات الأخيرة، واستمر احتجاز الأكاديميين الفلسطينيين دون وجه حق ولكم كذلك أن تتخيّلوا اعتقال أحد الطلبة الجامعيين استنادًا إلى مزاعم بأن مشروع تخرجه لبناء طائرة بدون طيار يشكل تهديدًا للأمن القومي الإسرائيلي. ويبدو أن الابتكار والذكاء لا يمكن تشجيعهما إذا كانا فلسطينيين.
وتترتّب على عُزلة الجامعات الفلسطينية المتنامية، بسبب القيود المفروضة على الحركة، تأثيراتٌ ضارةٌ على تطور التعليم العالي الفلسطيني بمجمله.
وهذا يؤدي، بدوره، إلى “هجرة العقول” ولا سيّما على مستوى الدراسات العليا، حيث إنّ الطلاب الراغبين في مواصلة دراساتهم العليا يختارون مواصلتها في الخارج. بحثا عن ملاذ آمن وبيئة تعليمية مناسبة.
ورغم أنّ حماية المؤسسات التعليمية قلّما يتصدّر الأولويات في الأوقات التي يتعرض فيها السكان للترويع، فلا ينبغي أن نغفل عن حماية المؤسسات التعليمية الفلسطينية في مثل هذه الأوقات. فمن الضروري أن نُبرز العنفَ الذي يطالها ويطال المستفيدين منها باعتباره اعتداءً صريحًا على الحرية الفكرية وعلى تنمية قدرة الفلسطينيين في تقرير المصير. فهذه الهجمات ترمي إلى معاقبة أولئك الشباب الذين سيرثون النضال من أجل ضمان استمرار المؤسسات والثقافة والمجتمع في فلسطين.
إنّ قدرة الجامعات في ظل هذه الظروف على التحمل والتكيف لهو دليلٌ على أهمية التعليم باعتباره الأمل الذي يُجسِّد تطلعات الشعب الفلسطيني للمستقبل. فلا يجب السماح باستمرار الهجمات ضد التعليم الفلسطيني دون معاقبة مرتكبها، ويجب ضمان الوصول إلى مساحات الفكر الحر والتعلم. وإذا أردنا زوال الاحتلال، فلا بد من معاملة المؤسسات التعليمية وفقًا لوظيفتها الفعلية، أي ملاذات للفكر والتعلم.
من رحم المعاناة يولد الأمل، ولولا ما نعلّل نفسنا به، لضاقت سبل العيش وانعدمت الحياة، فمن من الناس لم تعاكسه الظروف، ولم تترك بصماتها على قلبه وعقله، ومن منهم لم تفرض تحدياتها عليه، منهم من أضحى مقاوماً شرساً وجباراً، ومنهم من استسلم لها، وحدهم الأقوياء الذين لا يجاورون المستحيل وينكرون اليأس من جعلوا من تلك الظروف حكاية فقط يستذكرونها في سهرات السمر وجلسات الأنس.
وما من شكّ في أنّ قطاع التعليم العالي في فلسطين يواجه تحديات هائلة بسبب الممارسات الوحشية المتعمدة والمنظمة التي تهدف إلى تدمير قطاع التعليم. ولكنّ التعليم في السياق الفلسطيني سيظل شكلاً من أشكال الصمود والمقاومة التي يعتز بها الفلسطينيون ويعتنقونها بصفتها تمنحهم الأمل في مستقبل أكثر إشراقاً.
فكم من امرئ سبح عكس التيار وتغلب عليه بالإرادة والعزيمة والإصرار عبر كتاب وقلم وقرطاس، ليصل إلى هدفه.
هي قصص كثيرة في الحياة نسمعُ عنها، أو نصادف أبطالها وأصحابها؛ لكنْ نقولُ: لنا هدف واحد: أنْ نكونَ…
ومن بعده يجد الفردُ متسعاً لاختيار الهدف…
عميقاً، عميقاً…
بلادٌ على أهبة الفجر…
أيقظْ حصانَكَ…
واصعدْ…
خفيفاً خفيفاً…
لتَسبِقَ حُلُمَك…
اعذروني إنْ أطَلْتُ شاكرةً حُسْنَ استماعِكُم ولكم منّي ومن فلسطينَ أجملُ التحايا وباقات الورد.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.