
القيادة الصامتة: بين امتلاك الصفات وفقدان التأثير ، بقلم : د. زبيدة صبحي سلمان
في عصرٍ باتت فيه القيادة علماً يُدرّس، ومهاراتٍ تُقاس بالشهادات والدورات، يواصل العالم الاستثمار في صناعة القادة، حتى غدا التميّز القيادي معيارًا يُلاحق في السّير الذاتية أكثر مما يُلمس في الواقع. ويُفاجئنا الواقع بقائدٍ يملك كل ما يُقال إنه ضروري للقيادة: الكاريزما، الذكاء العاطفي، فن التواصل، وسِعة الأفق، ومع ذلك، لا يتبعه أحد، لا تُشعل كلماته التأثير في الناس، ولا تترك قراراته أثرًا حقيقيًا في القلوب أو السلوك.
فأين الخلل؟
هل خُدِعنا في تعريف القيادة؟ أم أن التأثير لا يُقاس بكمّ المهارات، بل بشيءٍ أعمق؟
في كثير من الأحيان، لا تكمن المعضلة في القائد نفسه، بل في طبيعة المهمة التي يحملها، وخاصة حين تكون مهمته قيادة التغيير. فالتغيير – مهما كان عقلانيًا أو نبيلاً – غالبًا ما يُقابل بجدار من المقاومة.
البشر بطبيعتهم يميلون إلى الاستقرار، إلى ما اعتادوه وما يُشبع حاجاتهم الأساسية، ولو بشكل غير مثالي. وعندما يأتي القائد حاملاً مشروعًا للتجديد أو الإصلاح، فإن ذلك يُحدث اختلالًا في هذا التوازن النفسي والاجتماعي، ويُشعر البعض وكأن حاجاتهم مهددة، فيبدأ الرفض، أحيانًا بصمت، وأحيانًا بضجيج.
وهكذا، لا يُرفض القائد لأنه غير مؤهل، بل لأنه يُجسّد لحظة انتقال تُربك الجماعة وتُرعبها من المجهول. وهنا تتجلّى المفارقة الكبرى: أن تمتلك كل أدوات القيادة، ثم تجد نفسك وحيدًا، فقط لأنك اخترت أن تفتح بابًا نحو التغيير.
نحن نفترض ضمنا ان الشخص يمتلك من السمات والصفات والكفايات الموروثة والمكتسبة ويتميز بوفرة العديد من المهارات والذكاءات التي تؤهله ليكون شخص مؤثر. فالمعضلة ليست فيه وفي شخصه انما تتمركز في ظاهرة مقاومة الناس للتغيير، كثير من الناس يميلون الى مقاومة التغييرات التي يهدف لها القادة لأنها تعمل على اخلال التوازن في الحالة او البيئة التي يتواجد بها الشخص او الجماعة، وحالة عدم التوازن هي في الواقع قلب لميزان اشباع الحاجات لدى الاشخاص. فعندما يحدث التغيير وخاصة عند عدم وجود اجراءات لتسهيل عملية التكيف مع كل جديد، تصبح حالة اشباع حاجات المرؤوس ورغباته في هذه الناحية مهددة بخطر جسيم. فأحيانا يحدث عدم اتزان وقتي عند الاشخاص بصدد اشباع حاجاتهم ثم سرعان ما يتكيفون مع التغيير ويعودون الى ساق مسلكهم. وفي حالات اخرى يتخذ رد الفعل شكل المعارضة والتمرد الذي يقود الى نسج ائتلافات هدفها محاربة التغيير.
ما الذي يجعل مقاومة التغيير تنبع من أعماق مختلف الخلفيات؟ هل هو الخوف من المجهول؟ أم رغبة في الحفاظ على الوضع الراهن؟ أم ربما هو التمسك بمعتقدات عميقة تجعل من التغيير تهديدًا لسلامة النفس والجماعة؟
من الجدير بالذكر تأتي مقاومة التغيير من عدة خلفيات ،أهمها:
1- التنظيم الاجتماعي السائد: تؤثر المعايير الاجتماعية الخاصة بالتنظيم الاجتماعي القائم على عملية انتشار الأفكار الجديدة التي يطرحها القادة والمعيار الاجتماعي هو النمط السلوكي الشائع بين أفراد تنظيم اجتماعي معين، وقد تكون هذه الأنماط تقليدية تقلل من إمكانية اعتناق الأفكار الجديدة أو قد تكون عصرية تشجع اتباع هذه الأفكار. إلا أن الأفراد لا يتشابهون جميعًا في موقفهم تجاه الأفكار الجديدة فثمة شخص قد ينقلها إلى شخص آخر فقط، بينما غيره قد يحاربها والبعض الاخر قد ينشرها بين مجموعة كبيرة من الأشخاص.
2- عدم استقرار الانظمة السياسية والتي بدورها ادت الى وجود انقلابات اسهمت الى حد كبير في تدعيم وتكريس الاساليب الديكتاتورية التي خلفت ورائها عدم الشعور بالأمان والخوف من التغيير.
3- التركيب الطبقي وتفاوت المستويات الاقتصادية السائدة في المجتمعات التي تؤدي بالطبقات الارستقراطية او البرجوازية الى محاربة اي تغيير يعمل على ضمان امتيازات اقتصادية تخدم المصالح العامة.
4- العادات والتقاليد والاعراف وانماط السلوك الاجتماعي السائدة في معظم المجتمعات وخاصة الدول النامية واثارها السلبية في قبول ما هو جديد.
5- غموض وجمود الانظمة واللوائح التي تكون عائقا امام القائد وتحول دون تمكينه من اداء مهامه.
6- الاعتماد على مصادر غير رسمية او على الاشاعات او التشكيك والغمز بألوان السخرية والاستهزاء بكل ما هو جديد وقابل للتغيير في إطار خالي من الدعم الرسمي.
في النهاية نستطيع القول ان مجموعة من الظروف والعوامل السياسية والاقتصادية والبيئية والحضارية والاجتماعية المتداخلة تعمل معا من اجل ان لا يكون التأثير ممكنا من قبل القائد على مرؤوسيه. وبما ان التأثير ليس بالعملية السهلة وتحتاج الى وقت وصبر والقيادة الناجحة هي تلك التي يكون تأثيرها طويل وبعيد الأمد. فالتأثير الحقيقي ليس ومضة لحظية، بل عملية تراكمية تحتاج إلى صبر استراتيجي، وإدراك عميق لنفسيات الناس واحتياجاتهم وتخوّفاتهم. والقيادة الناجحة ليست من تُحدث الصدى السريع، بل من تزرع المعنى في العمق، وتترك أثرًا يتّسع بمرور الزمن، حتى وإن بدأ بلا تصفيق أو احتضان.
إن القائد الحقّ، هو من يُدرك أن أعظم التأثير، قد يبدأ في صمت.