
غزة المنهكة تبحث عن لحظة صمت ، بقلم : صفاء أبو شمسية
في غزة، لم يعد الليل مرادفًا للهدوء، بل موعدًا يوميًا للرعب. الأطفال لا يحلمون بألعاب أو مستقبل، بل فقط بأن تمضي ليلة واحدة دون أن يوقظهم دوي القصف. لا شيء يبدو طبيعيًا في هذا الجزء الصغير من العالم، سوى الألم.
منذ أشهر، لا تكاد تتوقف دوامة النار، ولا يتوقف النزيف. البيوت تحوّلت إلى أكوام من الركام، المستشفيات خرجت عن الخدمة أو بالكاد تقاوم، والمدارس أصبحت ملاجئ لمن نجا من نيران الحرب. بين هذا وذاك، يقف الإنسان الفلسطيني وحيدًا، منهكًا، يحاول أن يتمسك بما تبقى من الكرامة والرجاء.
في خضم هذه المأساة، تتكرر الدعوات لوقف إطلاق نار، ليس كحل نهائي، بل كفرصة لالتقاط الأنفاس. فكل يوم إضافي من القتال يعني مزيدًا من الضحايا، مزيدًا من الجوع، ومزيدًا من الأرواح التائهة. ما يطلبه سكان غزة الآن هو هدنة طويلة الأمد، لا كاستراحة في معركة، بل كبداية لمرحلة أخرى، أكثر تعقيدًا وإنسانية: مرحلة إعادة الروح إلى مدينة تلاشت ملامحها بفعل الحرب.
أصوات سكان القطاع باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لا يطالبون الآن بتحقيق العدالة أو استرجاع الحقوق – وهي مطالبهم الأصلية – بل يستجدون ما يشبه “هدنة إنسانية” مؤقتة، مجرد شهر ونصف من الصمت، يكفيهم لدفن موتاهم، لترميم شظايا بيوتهم، ولملمة أرواحهم المبعثرة. طلب يبدو بسيطًا، لكنه في هذا الزمن المعقد صار أقرب للمستحيل.
تتقاطع أصوات الغزيين مع نداءات متكررة من المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، التي ترى أن وقف إطلاق النار ليس فقط خيارًا سياسيًا، بل ضرورة أخلاقية وإنسانية عاجلة. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فإسرائيل تربط أي هدنة بصفقة تشمل الإفراج عن الأسرى، وحماس من جهتها ما تزال تفاوض من موقع المعاناة والضغط، بين واجب المقاومة ومحنة الشارع المحاصر.
ورغم تعقيدات المفاوضات، وامتداد الشوط السياسي بتفاصيله الدقيقة، يبدو أن نقطة التفاهم الوحيدة الممكنة حتى الآن هي ضرورة الوصول إلى اتفاق يضمن هدنة مستقرة، تمهّد لمرحلة إعادة البناء، لا فقط للبنية التحتية، بل للإنسان نفسه.
لكن حتى مع تحقق الهدنة، سيبقى أمام غزة شوط آخر من المعاناة: كيف تعود الحياة؟ من أين تبدأ؟ كيف يمكن ترميم مدينة نزفت كل هذا الوقت؟ ستكون البداية من الأساسيات: إعادة تأهيل المستشفيات والمدارس، لا كمرافق خدمية فحسب، بل كرموز للحياة، والأمان، والاستمرارية.
غزة لا تطلب المستحيل، ولا تسعى إلى مكاسب سياسية، بل تريد أن تعيش. أن يجد الأطفال مكانًا يدرسون فيه بدل أن يختبئوا فيه. أن تعود رائحة الخبز بدل البارود. أن تتحول أصوات الحياة إلى ما كانت عليه يومًا: ضجيج الأسواق، زحمة الشوارع، وليس صفارات الإنذار أو بكاء اليتامى.
إن ما يعيشه سكان غزة لا يمكن وصفه إلا بكلمة “كارثة”، بكل أبعادها الإنسانية والمعيشية والسياسية. وما تحتاجه غزة الآن ليس فقط الصمود، بل أيضًا بارقة اتفاق، أو لحظة تعقّل، أو قرار شجاع من كل الأطراف، يمنح هذه المدينة المنكوبة بعض السلام، ولو مؤقتًا.