
من خطاب نتنياهو إلى المجلس المركزي: أي مشروع وطني لليوم التالي؟، بقلم : د. خالد جاسر سليم
في مساء يوم الجمعة الثامن عشر من أبريل 2025، أصدرت حكومة الاحتلال والتطهير العرقي خطابًا مسجلاً مسبقًا عبر الفيديو، قدّمه بنيامين نتنياهو، وُصف من قبل مكتبه بأنه “بيان خاص حول مسألة دبلوماسية”. إلا أن الخطاب لم يأتِ بجديد سوى تأكيد استمرار العدوان وتوسيع نطاقه، وتجديد الالتزام بسياسة الحرب المفتوحة التي تنتهجها إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023. لم يكن الخطاب دعوة لأي حل، بل تأكيدًا إضافيًا على أن مشروع الاحتلال لا يعترف بأفق تفاوضي جاد، ولا يرغب في تهدئة حقيقية.
في هذا السياق، ومن خلال منهجية تحليل المضمون، تاتي هذه المقالة لتقدم قراءة نقدية للخطاب في إطار السياسات العدوانية والإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023. لا تهدف المقالة فقط إلى توصيف المشهد، بل تسعى إلى تفسيره واقتراح بدائل فلسطينية تعزز من شروط الصمود والمواجهة السياسية في معركة الوجود الجارية حالياً في غزة والضفة الغربية.
سلام القوة… لا تفاوض ولا التزام
في هذا الخطاب، يكشف نتنياهو عن جوهر سياساته القائمة على التهرب من المسؤولية وتضليل الرأي العام، حين أعاد التأكيد بوضوح أن ملف الأسرى لم يعد يمثل أولوية حقيقية لحكومته، بل تحوّل إلى أداة للمساومة وتبرير استمرار العدوان. فقد قال صراحة: “من يطالبون بإنهاء الحرب يرددون كلمة بكلمة دعاية حماس، لن ننهي هذه الحرب قبل أن نهزم حماس ونستعيد مختطفينا، ونضمن أن غزة لن تعود تهديدًا”، رافضًا بذلك أي صيغة لوقف إطلاق النار مقابل الإفراج عن الأسرى. بهذا الموقف، لا يكتفي نتنياهو بتغييب أي منطق سياسي أو إنساني، بل يؤكد أنه يقف حائلًا دون أي تسوية واقعية، ويُمعن في تسويق الحرب كخيار وحيد، واصفًا إياها بـ”حرب الانبعاث”. كما استحضر المحرقة (الهولوكوست) لتبرير استمرار العدوان، حين قال: “من يشكك في ضرورة مواصلة القتال، ينكر دروس المحرقة”، في محاولة مكشوفة لتسويق مشروع الإبادة الجماعية باعتباره معركة تحرر قومي لإسرائيل.
يأتي خطاب نتنياهو في سياق العقيدة الإسرائيلية التاريخية المعروفة بـ”عقيدة الجدار الحديدي”، التي أسسها زئيف جابوتنسكي في عشرينيات القرن الماضي، والتي تقوم على فرضية أن السلام لا يتحقق عبر التفاوض أو التفاهم، بل من خلال فرض القوة الساحقة التي تُرغم الخصم على الاستسلام الكامل، ما ينسجم ونتائج استطلاع أجراه معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في مارس 2025، والذي بيّن أن نسبة المعارضين داخل التجمع الصهيوني لا تتجاوز 25.5%، أي ربع المستطلعة آراؤهم فقط. ومن هذا المنطلق، يُختزل مفهوم السلام في استسلام الطرف الآخر وقبوله بشروط إسرائيل الأمنية والسياسية، دون أي التزامات مقابلة من دولة الاحتلال. هذا ما تجسّد بوضوح في فشل المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، التي كانت تنص على انسحاب إسرائيلي من غزة ووقف شامل للعدوان. فبينما التزمت المقاومة بما تم الاتفاق عليه، أعادت إسرائيل التموضع عسكريًا وخرقت الهدنة، لتستأنف عدوانها من موقع أقوى، وهو ما أكده أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، بأن إسرائيل لم تلتزم باتفاق الهدنة، في توثيق إضافي لطبيعة السلام الإسرائيلي، الذي لا يهدف إلى إنهاء العدوان، بل إلى ضبطه زمنيًا بما يخدم الأهداف السياسية والعسكرية.
التفاوض بمنطق السوق: واشنطن وتل أبيب بين الابتزاز والمناورة
يتضح أن نمط التفاوض الذي تديره إسرائيل ومعها الولايات المتحدة – سواء عبر الوسطاء أو مع أطراف عربية بما في ذلك المقاومة – يستند إلى منطق “مفاوضات السوق”، لا إلى منطق الحقوق أو الالتزامات الدولية. وهو نمط يتسق تمامًا مع مقاربة الرئيس الأمريكي الحالي، الذي يدير السياسة الخارجية وفق منطق الصفقات التجارية: انطلاقًا من سقف مرتفع، ومن موقع تفوّق، بهدف انتزاع تنازلات كبرى قبل أي التزام فعلي. وفي هذا الإطار، يمكن فهم المقترحات الإسرائيلية حول الإفراج عن عدد محدود من الأسرى مقابل اشتراطات استراتيجية كبرى، من ضمنها “نزع سلاح حماس” و”الإبقاء على حرية الحركة العسكرية”، كمؤشر صريح على هذه العقلية.
المسار التفاوضي تحت الضغط: ما الذي تريده المقاومة؟ وما الذي يمكن تحقيقه؟
يفرض هذا الواقع على المقاومة، وعلى مجمل الحالة الفلسطينية، ضرورة إعادة تعريف شروط التفاوض وتثبيت معادلة جديدة أكثر اتساقًا مع تجارب المرحلة الماضية. وفي إطار ما نص عليه اتفاق الهدنة، وبعد أن تخلّت إسرائيل عن التزاماتها في المرحلة الأولى، فإن الموقف الفلسطيني يجب أن يُبنى على أحد خيارين واضحين: إما التوصل إلى صفقة شاملة تتضمن وقفًا كاملًا للعدوان وتُنفذ بضمانات ميدانية ملموسة لا على أساس وعود الوسطاء؛ أو رفض الصيغ المجتزأة التي تُستخدم كورقة سياسية داخلية في إسرائيل ولا تُفضي إلى إنهاء العدوان. وفي حال تعذّر الخيار الأول، يمكن اعتماد مسار تراكمي مشروط للإفراج، يُربط فيه إطلاق كل أسير إسرائيلي بمبدأ “التزام مقابل التزام”، بحيث تتحول كل خطوة تفاوضية إلى اختبار مباشر لمدى جدية الاحتلال في تنفيذ الاتفاقات.
ما بعد السلاح: هل المقاومة هي المشكلة أم المشروع الاستيطاني؟
في هذا السياق، تفتقر الدعوات التي يطرحها بعض الأطراف لتجريد المقاومة من سلاحها وتسليم ملف التفاوض إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بحجة إسقاط ذرائع الاحتلال لاستمرار العدوان، إلى الواقعية والمنطق السياسي. إذ تُظهر الوقائع الميدانية، كما عكسها بوضوح خطاب نتنياهو، أن استمرار العدوان لا يتوقف على وجود المقاومة أو سلاحها، بل ينطلق من عقيدة استعمارية راسخة تقوم على الإخضاع والإلغاء. فالاحتلال واصل سياساته من استيطان وقتل وحصار حتى في فترات التهدئة التي غابت فيها المقاومة المسلحة عن المشهد. وما نشهده اليوم في الضفة الغربية – من تصاعد في جرائم المستوطنين، واقتحامات يومية، وتمدد استيطاني غير مسبوق – هو خير شاهد على أن الاستهداف الإسرائيلي لا يُبنى على وجود مقاومة، بل على مشروع استيطاني إحلالي لا يعترف بوجود الفلسطيني أصلا.
المجلس المركزي الفلسطيني: فرصة أخيرة أم حلقة مفرغة؟
وانطلاقًا من ذلك، لا تقع المسؤولية فقط على المقاومة، بل تقع أيضا المسؤولية السياسية والتاريخية على منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد، وبخاصة الرئيس محمود عباس، الذي يبدو أنه يواجه تحديا لمغادرة المشهد السياسي بشكل آمن وهاديء. إذ يشكّل انعقاد المجلس المركزي الفلسطيني محطة فارقة وفرصة حقيقية لإعادة تعريف الدور الوطني للقيادة، من خلال طرح البرنامج التوافقي الذي نص عليه اعلان بكين في 23 يوليو 2024، ووقع عليه أربعة عشر فصيلا فلسطينيا، يعيد الاعتبار للثوابت الوطنية الفلسطينية. كما أن هذا الاجتماع يجب ألا يُختزل في استحداث منصب نائب الرئيس فقط والذي قد ينظر اليه كخطوة اعتراضية، بل أن يتحول إلى منصة تُنتج رؤية وطنية شاملة، تفتح أفقًا ومخرجًا سياسيًا للمقاومة وللشعب الفلسطيني. مثل هذه المقاربة، وإن كانت لا تلوح في الأفق بسبب طبيعة وبنية المجلس المركزي الحالي، إلا أنها قد تمثل جوابًا فلسطينيًا مسؤولًا على متطلبات اليوم التالي، وتؤسس لوحدة وطنية حقيقية تعيد بناء المشروع الوطني على أسس الشراكة والسيادة والكرامة.
إذا لم يكن الآن، فمتى؟
في ظل هذا الواقع، لا يقتصر التحدي الفلسطيني على مواجهة آلة العدوان والتطهير العرقي، بل يتجاوز ذلك إلى ضرورة تفكيك الانقسام الداخلي، وتجاوز الحسابات الفئوية الضيقة لكل من فتح وحماس، والانخراط في صياغة مشروع وطني جامع يعيد تعريف شروط التفاوض من موقع الصمود والندية، لا من موقع التكيف مع منطق الإملاء والاستسلام التدريجي. ومع انسداد أفق الوصول إلى هدنة حقيقية في المدى القريب، واحتمالها الذي يقترب من الصفر، فإن خطاب نتنياهو، إلى جانب خمسة عشر شهرًا من العدوان المفتوح، يشكلان دليلاً كافيًا لإسقاط أوهام التسوية وفضح الطبيعة الاستعمارية البنيوية للمشروع الصهيوني. فمتى سندرك أن إعادة بناء البيت الفلسطيني لم تعد ترفًا سياسيًا، بل شرطًا وجوديًا لا يقبل التأجيل، تمهيدًا لـ”اليوم التالي” الذي ينبغي أن يكون يومًا فلسطينيًا بامتياز: تُصان فيه الحقوق، وتُسقَط فيه مخططات التهجير الطوعي والقسري، وتُستعاد فيه الإرادة والحقوق الوطنية والاعتبار لمشروع التحرر الوطني بوصفه خيارًا لا تسوية فيه على الكرامة أو الأرض او المقدسات؟