
التعليم في شمال الضفة الغربية ، حين تصير المدارس جبهات، والحقائب توابيت صغيرة للطفولة ، بقلم: د. تهاني رفعت بشارات
في بلادٍ لا تغيب عنها رائحة البارود، ولا تهدأ فيها صفارات الإنذار، وُلد التعليم في شمال الضفة الغربية من رحم المعاناة، وسار على دربٍ محفوفٍ بالحواجز والإجتياحات. هنا، لا تُقرع أجراس المدارس إيذانًا بحصصٍ جديدة، بل تنفجر بدلها القنابل على أبواب الصفوف، فلا يعرف الطفل إن كان ذاهبًا إلى درس الجغرافيا أم إلى مصير مجهول خلف أروقة الخوف.
في هذه البقعة من الأرض التي ما زالت تقاوم الموت بقبضة القلم، لم يكن التعليم يوماً مجرد أداة للمعرفة، بل كان درعًا يحمي الهوية، ورايةً ترفرف في وجه الاحتلال، وسلاحًا من نوعٍ آخر يزرع الأمل في تربة الوجع. لكن، في السنوات الثلاث الأخيرة، بدا هذا السلاح وقد كُسرت أنيابه، وانهالت عليه الضربات من كل جانب: من جائحةٍ فتكت بالأنظمة، إلى حصار واقتحامات فتكت بالإنسان ذاته، لتتحول المدارس إلى ساحات انتظار ومرارة.
من كورونا إلى الجدار الحديدي… رحلة تعليمٍ محفوفة بالموت
منذ عام 2021، بدت السحب السوداء تتراكم فوق أفق التعليم. بدأ التراجع مع جائحة كورونا التي أرغمت المدارس على الإغلاق، ثم جاءت الأعوام اللاحقة محمّلة بما هو أفدح. فمع بزوغ شمس عام 2022، واعتلاء حكومة اليمين المتطرف سدة الحكم في إسرائيل، أخذت الآلة العسكرية تمارس هوايتها في تقويض البنية التحتية للتعليم، لا بالجرافات فقط، بل بإغلاق المدارس، ونثر الرعب في أروقة الفصول، واقتحام مخيمات اللاجئين كما تُقتحم القلوب الطرية.
ثم جاءت الذروة في 21 يناير 2025، مع انطلاق عملية “الجدار الحديدي”، التي امتدت كالنار في الهشيم من مخيم جنين إلى طولكرم، ثم نور شمس، فالفارعة، وطوباس. وكأن الاحتلال قرر أن ينتزع الأمل من جذوره، فهجر أكثر من أربعين ألف فلسطيني من منازلهم، وأغلق المدارس بالجملة، وأحال التعليم إلى ذكرى بعيدة، لا يمكن للطلبة تذكّرها إلا من خلال بقايا دفاتر ممزقة تحت الركام.
مدارس مغلقة، طلاب مشرّدون، وصفوف تختنق
في محافظة جنين وحدها، أُغلقت 47 مدرسة، منها 34 حكومية، 9 خاصة، و4 تتبع لوكالة الغوث، ليتوقف 10,984 طالبًا وطالبة عن الدراسة لمدّة تجاوزت 59 يومًا دراسيًا. أما في طولكرم، فقد أغلقت 62 مدرسة، وحُرم 2,808 طالب من مقاعدهم التعليمية. وفي الفارعة وطمون، كان التعليم يتنفس بصعوبة، فأُغلقت مدارس لسبعة عشر يومًا دراسيًا، وأصبحت رياض الأطفال خاوية كأنها حدائق ذابلة فقدت ضحكات الحياة.
لكن المشكلة لا تكمن في الأرقام فقط، بل في تفاصيل الكارثة: فقد امتلأت المدارس المستقبلة للطلبة النازحين حتى ضاقت جدرانها، وتجاوز عدد الطلبة في بعض الصفوف الخمسين، فغابت القدرة على التعلّم، وتحوّل المعلم إلى صدى ضعيف وسط فوضى لا تُطاق. والمعلم نفسه، أصبح يواجه حواجز عسكرية تمنعه من الوصول إلى مدرسته، وكأن التعليم جريمة يُحاسَب عليها.
الطالب الفلسطيني… من صفٍ إلى مأوى، ومن كتابٍ إلى مرارة
الطفل الفلسطيني الذي نزح من مدرسته ليس مجرد طالب فاته درس أو اثنان، بل هو نازفٌ داخليًا؛ حُرم من أمان فصله، وأُقصي عن أصدقائه، وفُصل عن أسرته التي تفرّقت على القرى والمخيمات لتجد مأوى. إنه طالبٌ يحمل على ظهره حقيبة لا تحوي كتبًا، بل صدمة، وشعورًا بالخسارة، وقلقًا من الغد.
هؤلاء الأطفال لم يكملوا الفصل الدراسي الأول، لم يتعرفوا بعد إلى معلميهم الجدد، ولم يحصلوا على أدواتهم المدرسية، بل لا يشعرون حتى بالأمان، وقد يتكرر نزوحهم مرةً تلو الأخرى. فقدوا زملاءهم، وربما فقدوا أنفسهم، وصاروا غرباء في مدارس تحاول جاهدة احتضانهم لكنها تعاني من نقص في كل شيء.
الحلول الممكنة… إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأمل
ولأن التعليم كالشجرة لا تزهر إن نُزعت من جذورها، فإن إنقاذه يحتاج إلى رعاية حقيقية من كل الأطراف. التوصيات ليست ترفًا، بل ضرورة لإنقاذ ما تبقى:
توفير أجهزة إلكترونية وإنترنت فعّال لتعليم عن بعد لا ينقطع مع أول رصاصة.
دعم نفسي واجتماعي حقيقي للطلبة والمعلمين، يعيد لهم التوازن وسط الفوضى.
تخصيص ميزانيات عاجلة لإعادة تأهيل رياض الأطفال والمدارس المتضررة.
تقديم حلول مرنة للمعلمين وتسهيل تنقلهم عبر الحواجز.
توسيع المدارس وبناء صفوف مؤقتة لاستيعاب النازحين وتخفيف الاكتظاظ.
دعم مادي مباشر للطلبة النازحين كي يشتروا مستلزماتهم.
تعزيز الخدمات الصحية المدرسية، خصوصًا لمن تأثروا نفسيًا أو بدنيًا.
تدريب المعلمين للتعامل مع بيئات تعليمية مأزومة وغير مستقرة.
حين تكون المدرسة جبهة، يكون المعلم شهيدًا صامتًا، والطالب مقاتلًا بالكلمة
التعليم في شمال الضفة الغربية ليس مجرد قصة نكبة، بل ملحمة يومية، يخوضها طفلٌ بقلبٍ لا يزال يختبر الحياة، ومعلمٌ يشقّ طريقه بين الحواجز، وأمٌ تخيط الحقيبة بيد وتُخيط الجرح باليد الأخرى. إنها حرب بلا بنادق، ومقاومة لا تُكتب بالرصاص، بل بالحبر. ولذا، على كل ضمير حيّ، وعلى كل مؤسسة مسؤولة، أن تعي أن استمرار العملية التعليمية هو استمرار للحياة نفسها.
فلنرفع صوتنا من أجل أن لا يُدفن التعليم تحت أنقاض القصف، وأن لا تتحول الحروف إلى أنين، وأن لا يُمنع الحلم من الوصول إلى دفاتر الطلبة. ففي هذه الأرض، لا زال هناك من يؤمن أن المعرفة مقاومة، وأن المعلم مقاتلٌ، وأن المدرسة، وإن أُغلقت، ستفتح أبوابها دومًا للحرية.