1:31 صباحًا / 19 أبريل، 2025
آخر الاخبار

الهوية على خط التماس : المواقع الأثرية الفلسطينية بين الاستيطان وجدار الفصل ، بقلم : د. عمر السلخي

الهوية على خط التماس : المواقع الأثرية الفلسطينية بين الاستيطان وجدار الفصل ، بقلم : د. عمر السلخي

الهوية على خط التماس: المواقع الأثرية الفلسطينية بين الاستيطان وجدار الفصل ، بقلم : د. عمر السلخي


في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا تقتصر ممارسات الاحتلال الإسرائيلي على مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والجدران الفاصلة، بل تمتد إلى إعادة إنتاج التاريخ عبر السيطرة على الرواية الأثرية والثقافية، فالآثار في فلسطين ليست مجرد بقايا حضارات، بل هي شواهد على هوية متجذرة في المكان، وساحة صراع رمزي حول من يملك الحق في الأرض، وعلى خط التماس بين الواقع التاريخي والاحتلال الحديث، تُستهدف المواقع الأثرية الفلسطينية بشكل ممنهج، في محاولة لإقصاء الوجود الفلسطيني من الماضي كما من الحاضر.


الاحتلال والآثار… مشروع أيديولوجي منذ بدايته


منذ مطلع القرن العشرين، وُظّفت الآثار في المشروع الصهيوني بوصفها أداة لإثبات “الحق التاريخي” المزعوم لليهود في فلسطين، فقد أُسست جمعية “أبحاث أرض إسرائيل” عام 1913 من قبل الحركة الصهيونية، وبدأت نشاطها في التنقيب الأثري الموجه أيديولوجيًا، باحثة عن أي دليل يدعم الرواية التوراتية (الجزيرة، 2009).


وبعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، تمأسست هذه السياسات ضمن أجهزة الدولة الإسرائيلية المحتلة ، ففي غضون أربعة أيام من الاحتلال، استولى الاحتلال على المتحف الفلسطيني في القدس الشرقية وضمّه إلى دائرة الآثار الإسرائيلية، مُعيدًا تسميته إلى “متحف روكفلر”، ومسقطًا عنه هويته الفلسطينية بالكامل (عموري، 2015؛ وفا، 2011).

ومنذ ذلك الحين، باتت الحفريات والتنقيبات الأثرية تُدار بموجب قوانين الطوارئ البريطانية وأوامر عسكرية إسرائيلية تُقصي السلطة الفلسطينية من أي دور سيادي في إدارة هذا الملف.


مناطق (ج)… حيث تُصادَر الآثار كما تُصادَر الأرض


تشير البيانات الصادرة عن المؤسسات الفلسطينية إلى أن 53% من المواقع الأثرية في الضفة الغربية تقع ضمن المناطق المصنفة (ج)، أي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة بحسب تقسيمات اتفاقية أوسلو. كما أن 15% من هذه المواقع تم ضمها فعليًا خلف جدار الفصل العنصري، ما يعادل أكثر من 1,000 موقع أثري مهم بات بعيدًا عن أية سلطة أو حماية فلسطينية (موقدي، 2018).


وتشير تقارير رسمية إلى أن العدد الحقيقي للمواقع الأثرية الفلسطينية كان يناهز 12,000 موقع بحسب إحصائيات الانتداب البريطاني، إلا أن ما تبقى منها بعد الاحتلال لا يتجاوز 7,000 موقع، ما يعني أن حوالي 5,000 موقع أثري قد تم تدميره أو نهبه أو تغييب أثره بفعل مشاريع الاستيطان أو الجدار أو الإهمال المتعمد (يحيى، 2008؛ Vision Center, 2018).


الاستيطان والآثار… علاقة استعمار ثقافي


تُمارس إسرائيل سياسة ممنهجة لضم المواقع الأثرية إلى نطاق سيطرتها، ليس فقط بوصفها معالم مادية، بل كأدوات لتعزيز رواية توراتية – صهيونية للتاريخ الفلسطيني. ففي عام 2002، أصدرت حكومة الاحتلال قائمة بـ150 موقعًا اعتبرتها ضمن “التراث القومي اليهودي”، كان منها 35 موقعًا في الضفة الغربية المحتلة، تم ضمّها رسميًا إلى برنامج السياحة الإسرائيلية، وتُدار حاليًا من قبل المستوطنين (طه، 2016(


من أبرز هذه المواقع: تل شيلو، قصر الحمراء، خربة سوسيا، وعيون العوجا، وفي كل حالة، تم منع الفلسطينيين من الوصول إلى هذه المواقع أو تنظيم زيارات علمية وسياحية لها، في حين تُقام في بعضها فعاليات دينية وثقافية صهيونية، تُروج لسردية دينية تتجاوز التاريخ الأكاديمي.


هذا الاستغلال الأثري يخدم أهدافًا سياسية واستيطانية مزدوجة: تثبيت الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية، وتبرير ضم الأراضي بوصفها “أماكن تراثية قومية”، ومن ثم استخدام التراث كمفتاح للضم الجغرافي.
جدار الفصل العنصري… طوق العزل الثقافي


أدى بناء جدار الفصل العنصري إلى اقتطاع آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية والمناطق التاريخية، وضمّ عشرات المواقع الأثرية المهمة خلفه، منها ما أصبح غير قابل للوصول من قبل الطواقم الفلسطينية، ومنها ما تم تحويله إلى حدائق توراتية ومسارات سياحية استيطانية.


ففي قريتي بيت لحم والولجة، تم ضم مناطق غنية بالمقابر الرومانية والكنائس البيزنطية، وفي مناطق سلفيت وقلقيلية تم الاستيلاء على بقايا معمارية كنعانية وإسلامية (Vision Center, 2018). كما أن بعض المواقع الأثرية تم استخدامها كنقاط مراقبة عسكرية أو قواعد استيطانية، مثل تل رمانة وتل النبي يعقوب.
الرواية التاريخية… هدف آخر للهدم


ما يجري في الضفة الغربية لا يقتصر على تدمير الآثار، بل على محاولة منهجية لتزوير التاريخ، فالمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، مثل الجامعة العبرية وجامعة تل أبيب، تُشارك بشكل مباشر في عمليات تنقيب تُركّز فقط على الفترات “اليهودية” المفترضة، وتُهمل أو تتجاهل الفترات الأخرى، خصوصًا الكنعانية والإسلامية، رغم غزارة آثارها وامتدادها الزمني (مدار، 2018).


كما تُستخدم نتائج هذه التنقيبات في حملات إعلامية موجهة للعالم، لتصوير الضفة الغربية كمكان “ذو طابع ديني يهودي”، وهو ما يشكّل خطرًا مباشرًا على الرواية الفلسطينية والهوية الثقافية الوطنية.


ضعف الحماية الفلسطينية… وضرورة بناء استراتيجية وطنية


رغم جهود وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، إلا أن قدرة المؤسسات الفلسطينية على التدخل في مناطق (ج) تبقى شبه معدومة، فالاتفاقيات الموقعة تمنع السلطة من ممارسة أي صلاحيات إدارية أو قانونية في تلك المناطق، بينما التمويل المخصص للقطاع الأثري يبقى محدودًا وغير مستدام، والمجتمع المحلي يفتقر غالبًا إلى الوعي بأهمية الحفاظ على هذه المواقع.


لا بد من تبني استراتيجية وطنية لحماية المواقع التاريخية من خلال:


⦁ تبني سياسات وطنية تشاركية لحماية المواقع الأثرية، تقودها وزارة السياحة بدعم من اليونسكو.
⦁ تعزيز الوعي المجتمعي من خلال المناهج التعليمية وحملات التثقيف العامة.
⦁ تدويل قضية الآثار الفلسطينية واعتبارها ملفًا سياسيًا وحقوقيًا في المحافل الدولية.
⦁ تمويل مشاريع لحصر وتوثيق المواقع، وتدريب طواقم محلية متخصصة في الحماية القانونية والثقافية.
الدفاع عن التاريخ دفاع عن السيادة


المواقع الأثرية ليست حجارة صامتة، بل ذاكرة الشعوب وهوية الأرض، وإنّ استهدافها من قبل الاحتلال لا يُمثّل فقط جريمة ضد التراث الإنساني، بل هو جزء من معركة أشمل لطمس الوجود الفلسطيني، فكما تُبنى المستوطنات على التلال، يُعاد بناء التاريخ في المختبرات السياسية. لذا، فإن حماية الآثار ليست رفاهًا ثقافيًا، بل واجب وطني واستراتيجي في صراع الرواية والسيادة.

شاهد أيضاً

أسعار الذهب اليوم

أسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت أسعار الذهب اليوم السبت 19 أبريل كالتالي :عيار 22 69.600عيار 21 66.500