1:20 صباحًا / 16 أبريل، 2025
آخر الاخبار

عصر الوهم المعرفي و الثقافي ، بقلم : د. فواز عقل

عصر الوهم المعرفي و الثقافي ، بقلم : د. فواز عقل

كان يا ما كان في قديم الزمان، أن رجلا زار أحد فلاسفة الرومان فدعاه الفيلسوف إلى مائدته و عندما بدأ الرجل بشرب الحساء رأى في الطبق شيئا كالأفعى لكنه استمر في الشرب خجلا من احراج الفيلسوف، و حين عاد إلى بيته ظل قلقا مما تناوله،و بالفعل أصابه ألم شديدا في بطنه و غاب النوم عن عينيه و حين طلع الفجر قصد بيت الفيلسوف لعله يجد دواء لما يعانيه.


و كم كانت دهشته عظيمة عندما أخبره الفيلسوف أنه لم يكن في الطبق أي أفعى وانما كان هنالك انعكاسا لصورة مرسومة على السقف و أكد له ذلك حيث سكب طبق حساء آخر فانعكست فيه على الفور صورة الأفعى و فورا أحس الرجل بزوال ألم بطنه فور معرفته بالحقيقة، إن الأفعى موجودة في عقله فقط، لأن الوهم له قوة عجيبة قد تتحول إلى واقع محسوس في داخل الإنسان، لذلك يقول ابن سينا: الوهم نصف الداء والاطمئنان نصف الدواء والصبر أول خطوات الشفاء، و أقول: أن الوهم الذي يعيشه الشخص يوميا يؤثر على سلوكه و لقد أبدع الشاعر الذي قال مخاطبا كثير الشكوى بدون مرض كيف سيصبح حاله إذا أصابه مرض؟ حيث قال:

أيها الشاكي وما بك داء       كيف تغدو إذا غدوت مريض


إن الوهم المعرفي و الثقافي يعكس تأثير الانطباعات والتصورات البشرية على فهم العلم سواء من ناحية ثقافية أو معرفية فالوهم المعرفي يشير إلى الانطباعات والتصورات والأفكار التي قد تكون خاطئة و تؤثر على فهم الواقع و هذه الأوهام يمكن أن تؤثر على كيفية تفسير الأحداث و كيفية معالجة المعلومات التي نواجهها في الحياة اليومية و هو الاعتقاد أن الشخص يملك ما لا يملكه الآخرون و يعرف ما لا يعرفه الآخرون، و يقسم إلى قسمين، الأول اعتقاد الشخص أنه يعرف أكثر من معرفته الحقيقية و الثاني هو الاشتباه بين الاطلاع و المعرفة، فبالنسبة لحملة الشهادات العليا، يظن البعض أنه عرف المادة التي حصل على شهادة فيها و هذا أخطر من الجهل، و أن نصف المتعلم أو متوهم المعرفة الذي اطلع مثلا على كيفية الإقلاع بالطائرة و لكنه لم ينتبه إلى أنه لم يتطلع على كيفية الهبوط ولا التعامل مع التقلبات الجوية.


إن وهم المعرفة  يصاب به المتعلمين و الأخصائيين من أطباء و مهندسين و سياسيين ومحامين و أكاديميين،هؤلاء لا يعترفون بحدود معرفتهم و ليس لديهم تواضع فكري و إنهم يحيطون ما لم يحط به الآخرون و أقول إن اجتراع الوهم عدو النقص.


أما الوهم الثقافي فيشير إلى التصورات الثقافية التي قد تكون مشوهة أو غير دقيقة حول ثقافتنا الخاصة و قد تكون هذه الأوهام نتيجة التنشئة الاجتماعية أو الإعلام أو التفاعل المحدود مع ثقافات مختلفة، مما يؤدي إلى مفاهيم مغلوطة.


فالمثقف الحقيقي اختفى بسبب طوفان مدعي الثقافة الذين هيمنوا على الساحة الثقافية، فالمثقف هو من يدرك أن المعرفة أو الشهادة ليست غاية في حد ذاتها و ليست نهاية المطاف و الذي لا يقتصر على جمع المعلومات بل يعمل على فهمها و توظيفها و يعيد صياغتها لتتناسب مع واقعه و مع تحديات العصر و هو لا يقرأ فقط لاكتساب المعرفة و هو ليس مجرد قارئ متلقي سلبي للمعرفة بل هو منتج للمعرفة و يطرح أسئلة صعبة ، و المثقف هو من يرى في المعرفة قوة تحرك التغيير و جسر للحوار بين المختلفين و يرى في الإبداع أملا للمستقبل ، فالثقافة ليست معرفة أكاديمية وعلمية فقط، بل هي فهم الفنون و الآداب و الفلسفة و هي ليست ترفا فكريا بل ضرورة لبناء مجتمع أكثر وعيا و إنسانية و تسامحا.


و هنالك أسئلة تثير كاهلي و كاهل الكثيرين من المهتمين:


1-هل صحيح أن من يستطيع إيهام الناس و يبيعها الأوهام يصبح سيدهم؟
2-هل الثقافة و المعرفة مقصورة على ناس معينة؟
3-هل صحيح أن المثقف تحول إلى مجرد بائع أوهام؟
4-لماذا ظهر أدعياء العلم والثقافة في هذا الوقت؟
5-هل الوهم المعرفي والثقافي هو إفلاس معرفي؟
6- هل الوهم المعرفي و الثقافي ناتج عن النقص؟
7-ما علاقة التنشئة الاجتماعية بالوهم المعرفي و الثقافي؟
8-هل يؤدي الوهم المعرفي و الثقافي إلى تشكيل مفاهيم مغلوطة حول المجتمعات و العلاقات؟
9-هل يؤثر الوهم الذي يعيشه الشخص يوميا على مشاعره و سلوكه؟
10-هل صحيح أننا في زمن يباع فيه الفكر؟
11-هل صحيح أنه كلما زادت المعرفة صغرت الأنا؟ و كلما صغرت المعرفة كبرت الأنا؟
12-هل عجلت السوشيال ميديا على أن يصبح الوهم حقيقة؟
13-هل صحيح أن العقلية العربية أكثر من غيرها تقبلا للوهم و المبالغة لأنها تربت على الخطب الرنانة و العنتريات و إنجازات الماضي؟
14-هل صحيح أن العقل الإنساني يميل أكثر إلى تلقي الوهم و يصدق الجهل ؟
15-هل صحيح أننا نعيش في زمن علم بلا ثقافة؟
16-هل نعيش في عصر استهلاك المعرفة كسلعة؟ دون القدرة على توليد معرفة جديدة أو تقييمها؟

و قد ظهر جيل جديد من مدعي الثقافة والمعرفة الذين هيمنوا على الساحة الثقافية و المعرفية دون المحتوى الأخلاقي و ظهر جيل جديد من أدعياء المعرفة الذين يعتقدون أن لديهم المهارات و القدرات و الأفكار التي قد تقلب الطاولة رأسا على عقب، و إن وهم الشخص أنه يمتلك المعرفة الكافية يؤدي إلى الفقر الفكري و الثقافي، رحم الله الشاعر الذي قال :


قل لمن يدعي في العلم فلسفة            حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
أدهى من الجهل علم يطمئن له         أنصاف ناس طغوا في العلم واغتصبوا
ما عاد أهل العلم سادة قومهم            بل سادهم من يتقن التبجيلا


و حيث صار أحدهم مجرد أنه حصل على شهادة ما في موضوع ما من جامعة ما أو شارك في نشاط ما أو دعي إلى مناسبة ما أنه امتلك من المعرفة ما لا يملكه الآخرون، حيث صار عندنا علماء وأكاديميين من مدعي المعرفة، و هنا أذكر مثالا لتوضيح ذلك، أن شخص مثلا تخرج من جامعة مرموقة مثل السوربون في فرنسا يتمتع برأس مال ثقافي أكثر من شخص آخر تخرج من جامعة غير معروفة في تخصص ما و حصل على شهادة ما حتى و إن كانا يدرسان نفس الموضوع، فالسمعة التي تكتسبها المؤسسات التعليمية تمنح خريجها قيمة إضافية مما يمنحهم صور أكثر في سوق العمل، و في هذا العصر ، إن كثير من الخريجين يعرفون أنفسهم بقول أنا خريج الجامعة الفلانية.


و في هذا العصر، عصر التيك توك عصر السرعة، تم برمجة العقل على السرعة و يتم التعامل مع أي محتوى بسرعة و إن أي شيء بطيء أصبح مملا و قلل من القدرة على التركيز و أعاد تشكيل طريق للتفكير و تقليص الانتباه و الاهتمام و أصبحنا معتادين على السرعة و هذا جعلنا نفقد القدرة على الاستمتاع في ما نقرأ و أصبحنا نتجنب المحتوى العميق و نركز على المحتوى السريع مما يؤثر على جودة التعليم و التعلم مما أدى إلى وهم المعرفة.


و يقول السلطان عبد الحميد:


لم أخشى مطلقا في يوم من الأيام من رجل متعلم، إنما أتجنب هؤلاء الحمقى الذين يعتبرون أنفسهم علماء بعد قراءتهم بعض الكتب، و الكثيرين حاليا يعتقدون أن استخدام الذكاء الصناعي كافي ليكون خبرة سريعة مما قلل الجهد الذي يتطلبه اكتساب المعرفة و هنا أقول ما قاله الشاعر :


اقرأ كتابك إن أردت ثقافة         فالمجد يحني الرأس للقراء


و أقول : اقرأ أكثر ترى أبعد.


إن اكتساب المعرفة يحتاج إلى جهد و وقت و انتباه و تركيز ، و كانت الخبرة في الماضي تحتاج لزمن طويل، أما الآن فقد أصبح الكثيرين يقدمون أنفسهم كخبراء في موضوع ما بعد استخدام الذكاء الاصطناعي، علما بأن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في التعليم و التعلم و البحث يمكن أن يؤدي إلى كسل العقل أو إبطاء العقل، لذلك يجيب أن لا نصبح مستهلكين للمعرفة دون القدرة على توليد معرفة جديدة أو تقييمها،فالمعرفة من خلال الذكاء الاصطناعي أصبح من الوجبات السريعة التي لا تشبع ولا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تمنح القارئ القدرة على التفكير العميق الذي يأتي من التعلم الحقيقي و البحث.


سأعرض هنا بعض الاقتباسات التي لها علاقة بالوهم:


1-الشهادة التي لا تعكس فهما و تواضعها حاملها و الجدار سواء.
2-إذا خلا المرء من فهم و معرفة              ظلمت نفسك لو تدعوه إنسانا
3-مالي أرى التعليم أصبح عاجزا             على أن يصح في النفوس مكسرا
4-حملوا الشهادة دون أي ثقافة                ختموا العلوم و أطفئوا القنديل
5-اطلب العلم لذات العلم                    لا لشهادة و أرباب آخر
6-لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها            ولكن أحلام الرجال تضيق


7-و يقول عبد الوهاب المسيري : أن كلمة أكاديمي فقدت معناها و أصبح تشير إلى إنسان عديم الخيال يشرح دروسه بطريقة مملة و لا يبدي أي رأي و يتحرك في عالم خالي من أي هموم إنسانية، خالي من نبض الحياة لديه، فلا هم له إلا الحصول على الشهادة و الترقية.


إن كلمة دكتوراه تعني أن حامل هذا اللقب قد وصل إلى الدرجة العلمية الأعلى في تخصصه و تعني امتلاك فلسفة ذلك التخصص و تعني امتلاك القدرة على التفكير والإبداع في ذلك التخصص و تعني التنظير لذلك التخصص و امتلك أصول التخصص و مناهجه وقواعده و أصبح حكيما فيه.


و كما تقول الآية الكريمة ” مثل الذين حملوا التوراة و لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا”.
و أقول : لا تتوقف عن القراءة فأنت لا تدري أي كتاب سينبت لك عقلا جديدا لأن كل كتاب تقرؤه سيأخذك خطوة أعمق نحو فهم نفسك.


و يقول سقراط: نحن ما نكرر فعله.
و أن أي فكرة وهمية تذهب إلى العقل و يعيد تكرارها مرارا حتى يتجاوزها العقل و يتعامل معها و مع الوقت على أنها حقيقة.
و يقول المثل : كذب الكذبة وصدقها.


و من يغرق في أوهامه ينفي نفسه عن العالم و يقع أسير أفكاره ، و يقول دانييل بورستين : أعظم عائق أمام التقدم ليس الجهل بل وهم المعرفة.
و أقول: أن التعليم يجب أن لا يبقى رهينة لقرارات يأخذها أنصاف المتعلمين و المثقفين و آخرون و نكون نحن الضحية،

و رحم الله الشاعر الكبير أحمد شوقي الي وصف ظاهرة الوهم وصفا دقيقا شاملا:


الكل في هذه الديار مدرس          و الكل فيها شاعر و أديب
و الكل إن شئت البناء مهندس       و الكل إن شئت الدواء طبيب
و الكل في علم الحديث محدث      و الكل في علم الكلام خطيب
و الكل قد درس الحقوق و علما     و الكل في علم القضاء رهيب
و الفقه عند الناس أمر هين          فالكل يفتي دائما و يصيب
ما عاد في هذه الديار تخصص     هذا لعمري مخجل ومعيب
لو كلنا علم الحدود لعقله             ما عاد فينا وجاهل و كذوب  


لانه من تكلم في غير علمه جاء بالعجائب.


نحن نعيش في زمن علم بلا ثقافة، حيث غاب الفكر المتجدد و الفلسفة عن العملية التعليمية و أصابها الوهن، حيث ضرب الوهم المعرفي كل شيء وأصبحنا نجتر ما خلفه السابقون،و أصبح هناك تباعد بين العلم و الثقافة و انفجار علمي مقابل خراب الإنسان والسؤال هو : هل مجتمع بلا ثقافة ممكن ؟ بعد أن نسي العلم هو نفسه من خلق و شكل الثقافة و الذي أدى إلى خراب الانسان وتدمير المجتمع.


و قد عالجت فنلندا التي تملك سمعة عالمية بفضل نظامها التعليمي الشامل المستمر وهم المعرفة عن طريق تعليم المفاهيم بدل حفظ المعلومات و تكرارها ، من خلال إعطاء الطالب المزيد من الحرية والمرونة والتنوع في اختيار ما يريدون دراسته و تصميم مسارات دراسية تتناسب مع احتياجات و اهتمامات الطلاب الشخصية، نحن في زمن المظاهر الكاذبة بامتياز، تجد بعض الناس في قمة الأناقة في أبهى صورة و قد تبهرك حياكة حديثهم، و قد يغرك حضورهم و يخيل إليك أن بينهم و بين المثالية و الكمال خطوة و لكن بعد التعمق في جوهرهم ستنهار التصورات و تكون المفاجأة و الصدمة من هول الفارق بين الظاهر والباطن لأن البريق الحقيقي يدوم أبد الدهر و هو بريق النفوس المتواضعة البعيدة عن الغرور.


و كما يقول المثل النابلسي: مش كل من صف صواني صار حلواني


 ليس كل دخل الملعب عداء،و ليس كل من لبس عباءة صار شيخ، و ليس كل ما يلمع ذهبا.


و يقول الروسي انطون تشيخوف : إذا رأيت الموضوعات التافهة تتصدر النقاشات في أحد المجتمعات و يتصدر أنصاف المثقفين و المتعلمين المشهد، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل حيث لا يعطى فيه قيمة للكتاب و المؤلفين وأصحاب الرأي ولا أحد يعرفهم، لأنهم يؤلموننا بقول الحق.

و قد أعجبني ما كتبه البعض عن هذا الزمان الذي يباع فيه الفكر بثمن بخس و تشترى الأقدام بالذهب لا عجب أن يلقى القلم جانبا و يرفع الحذاء في صدارة المشهد، هكذا تطوى صفحات الأدب تحت أقدام اللاعب في الملاعب، و يصفق الجمهور لمن يركل الكرة لا لمن يكتب،لكن مهما علت الهتافات للركلات سيبقى للكلمة خلود لا تدركه الأقدام و الأدب لا يشترى بملايين الصفقات و رحم الله توفيق الحكيم الذي قال:


“لقد انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم حيث يأخذ اللاعب في سنة واحدة ما لا يأخذه أدباء مصر من أيام اخناتون حتى الآن”


و أخيرا أقول، نحن التربويون ، المحاورون، الذين فهمنا كلنا شيء مبكرا ، نحتاج إلى كرة أرضية ثانية لنزرع فيها روح الأخلاق و التعلم و التربية و التواضع ، نحن أصحاب اليقظة أصحاب البوصلة نصنع البوصلة لليوم التالي ولا ننتظرها.

  • – د. فواز عقل – باحث في شؤون التعليم و التعلم

شاهد أيضاً

اسعار الذهب اليوم

اسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت اسعار الذهب اليوم الأربعاء 16 أبريل كالتالي :عيار 22 67.600 دينارعيار 21 …