
من قائمة الأرباح إلى قائمة الاتهام: كيف تُستخدم المحاسبة الإبداعية للتهرب من الضرائب؟ بقلم : د. علاء موقدي
في بيئة مالية فلسطينية تعاني من شح الإيرادات العامة وارتفاع مستويات العجز المالي، يبرز التهرب الضريبي بوصفه تحدياً اقتصادياً وأخلاقياً، يتطلب أدوات تشخيص دقيقة. ومن بين المداخل التحليلية التي سلطت الضوء على جذور هذه الظاهرة، تأتي المحاسبة الإبداعية، كإحدى الأدوات التي تُستغل، لا لتحسين الكفاءة أو الشفافية، بل لإخفاء الواقع المالي وتخفيض الالتزامات الضريبية.
حين تصبح القوائم المالية أداة تلاعب
أن المحاسبة الإبداعية لا تقتصر على اختيارات فنية بريئة ضمن المعايير، بل تتحول أحياناً إلى آلية مُمَنهجة لخلق فجوات ضريبية، يتم من خلالها تضخيم المصاريف، أو تقليل الإيرادات المعلنة، بما يؤدي إلى خفض الأرباح الخاضعة للضريبة، وتبيّن نتائج الدراسات، استنادًا إلى عينة من موظفي دوائر الضريبة والمحاسبة، أن هناك علاقة إيجابية دالة إحصائيًا بين ممارسات المحاسبة الإبداعية في قائمة الدخل وقائمة المركز المالي، والتهرب الضريبي، أي أن التلاعب في بنود القوائم المالية يشكّل سبباً مباشراً في تقليص الالتزامات الضريبية، سواء من خلال المخصصات أو الاستهلاكات أو تقييم المخزون أو الإيرادات المؤجلة .
دوافع التلاعب: بين المكافأة والتهرب
عدة دوافع تقف خلف هذه الممارسات، أبرزها:
- سعي الإدارة التنفيذية لإظهار نتائج مالية محسّنة أمام مجالس الإدارة أو المستثمرين.
- محاولة المؤسسات تجنّب العبء الضريبي في ظل نظام جباية معقد وغير موحد.
- ضعف دور المدققين الخارجيين وعدم فاعلية الرقابة الداخلية
- استغلال خيارات التقدير المحاسبي التي توفرها المعايير الدولية .
هذه العوامل تؤدي إلى استخدام أدوات مثل إعادة تقييم الأصول، أو تغيير سياسات الاستهلاك، أو تسجيل الإيرادات بأساليب مرنة، وهي أمور تسمح بـ”شرعنة” التلاعب دون الوقوع تحت طائلة القانون.
ما الثمن الذي تدفعه الدولة؟
إن ممارسة المحاسبة الإبداعية لأغراض التهرب الضريبي لا تقتصر آثارها على الشركة أو المؤسسة المعنية، بل تمتد إلى موازنة الدولة والمجتمع بأكمله. فالخسائر الناجمة عن هذه الأساليب تؤدي إلى:
- حرمان الخزينة العامة من مصادر تمويل مستحقة.
- زيادة العبء على دافعي الضرائب الملتزمين، ما يُضعف العدالة الجبائية.
- تشجيع الممارسات غير الأخلاقية في بيئة العمل المالي.
- تقويض ثقة المواطنين في المؤسسات الرقابية، وإضعاف الالتزام الطوعي .
من التلاعب إلى المساءلة: ماذا نفعل؟
لمواجهة هذا الشكل من التهرب الضريبي المستتر، يمكن القيام بما ما يلي:
- تشديد الرقابة على القوائم المالية وربطها تلقائياً بالإقرارات الضريبية، خاصة في ما يخص بندي الدخل والمصروفات المؤجلة .
- توحيد المرجعيات المحاسبية الضريبية، بحيث لا تترك للمكلف خيارات متضاربة تؤدي إلى تفاوت في الالتزام.
- تفعيل الرقابة اللاحقة والمراجعة الضريبية التفصيلية، وليس الاكتفاء بالفحص السطحي.
- تعزيز أخلاقيات المهنة المحاسبية، وتطوير التعليم المهني للمحاسبين والمدققين ليشمل معايير النزاهة والتبليغ.
- تشجيع الإعلام المتخصص والمجتمع المدني على فضح ممارسات التلاعب المالي في الشركات الكبرى.
بين الحق والتهرب خيطٌ محاسبي رفيع
إن عملية التهرب ليس فقط أدوات تقنية تُستخدم للتلاعب بالأرقام، بل منظومة كاملة تُعيد تعريف العلاقة بين المكلف والسلطة الضريبية، وفي سياق يعاني من هشاشة مالية وسياسية، تصبح كل ممارسة محاسبية مسؤولة أداة مقاومة للصمت، وأساساً لبناء الثقة، وممراً للعدالة المالية.