
13 نيسان ، من الرصاص إلى الخطاب ، الحرب مستمرة ، بقلم : محمد غزالة
في مثل هذا اليوم قبل خمسين عامًا، انفجرت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية في شارعٍ من شوارع عين الرمانة، لكنها سرعان ما امتدت إلى كل بيت وحيٍّ وقرية. نصف قرن مرّ منذ 13 نيسان 1975، وما زال طعم الحرب في أفواه اللبنانيين، مرًّا لا يُمحى، حاضرًا رغم كل محاولات الطمس والنسيان.
خمسون عامًا… والمصالحة لم تكتمل، والمساءلة لم تحدث، والمجرمون أحرار. تبدّلت الوجوه، تغيرت الوسائل، لكن الحرب بين اللبنانيين لم تنتهِ، بل تحوّلت من سلاح إلى خطاب، ومن متاريس إلى شاشات ومنصات. ما زال الكل يخاف من الكل، وما زال كل فريق يتهم الآخر بأنه الخطر الداهم، وأن الوطن لا يُنقذ إلا من خلاله.
إن الحرب الأهلية لم تكن فقط صراع بنادق، بل كانت – ولا تزال – حرب وجود وبقاء، حرب هوية، حرب المفسدين والسماسرة، الذين وجدوا في الفوضى سوقاً ذهبياً لعقد صفقاتهم ومراكمة ثرواتهم على أنقاض الناس.
ولعل الحرب الأخطر، هي تلك التي نعيشها اليوم: الحرب النفسية. هذه الحرب التي تسكن في الخوف الجماعي، في خطاب التخوين، في الذاكرة المثقوبة، وفي غياب العدالة. هي حرب لم تتوقف، بل اتخذت أشكالًا أخرى: طائفية مقنّعة، زعامات محصّنة، مؤسسات متهالكة، إعلام مسيّس، اقتصاد مرتهن، ونظام سياسي عاجز عن التجدد.
سؤالنا الكبير: ماذا فعلنا نحن كأحزاب وجماعات ودولة بعد الحرب؟
هل أصلحنا النظام؟
هل حاكمنا الفاسدين؟
هل بنينا ذاكرة وطنية مشتركة؟
هل كتبنا التاريخ من دون تزوير؟
هل علّمنا أبناءنا أن الحرب ليست بطولة بل جريمة؟
هل وضعنا ميثاقًا أخلاقيًا يمنعنا من تكرارها؟
للأسف، الإجابة في معظمها: لا.
ما أنجزناه بعد الطائف لم يكن سلامًا حقيقيًا بل هدنة طويلة، تفاهم هشّ، مبني على تقاسم النفوذ بدل بناء الدولة. كأننا وقعنا على وثيقة تهدئة لا على اتفاق مصالحة. وها نحن بعد خمسين عامًا، لا نزال ندور في نفس الحلقة: انقسامات، انعدام ثقة، واستثمار دائم في الفتنة.
لكن، رغم كل ذلك، لا بد من بصيص أمل. لا بد من مواجهة النفس قبل مواجهة الآخر. لا بد من سرد الحقيقة مهما كانت مؤلمة، ومحاسبة من قتل وسرق وخرّب، ومصالحة بين الناس لا بين الزعامات فقط. فلبنان لا يُبنى على تناسي الحرب، بل على الاعتراف بها، واستخلاص العبر منها.
نحن لا نريد أن ننسى الحرب. نريد أن نوقفها، أن نمنع تكرارها، أن نتحرر من نتائجها، أن نمنع أبناءنا من أن يكونوا جنودًا في جولة جديدة.
اللبنانيون يستحقون السلام. لكن السلام لا يولد من الخوف، بل من العدالة. ولا يُفرض بالسلاح، بل يُبنى بالثقة.
فلنبدأ بالاعتراف: نعم، نحن ما زلنا نعيش آثار الحرب الأهلية. لكننا نملك الخيار، كل يوم، لنقول: كفى.