11:20 مساءً / 14 أبريل، 2025
آخر الاخبار

غزّة بين حرية الاختيار ومسؤولية الفعل ، بقلم : أ. مروة معتز زمر

بسم الله الرحمن الرحيم


أجد نفسي عالقة بين شظايا مقولة سارتر التي تقرع في رأسي كجرس إنذار..


“الحرية هي جوهر الإنسان، لكنها حرية مقترنة بثقل المسؤولية”


كل اختيار – حتى الصمت – هو موقف، كل حياد – حتى اللامبالاة – هو قرار، فماذا يقول صمتي إذن عن ذاتي التي أُشكّلها يومياً أمام مأساة غزة؟


تتدافع الأسئلة في رأسي: أي جوهر أكتسبه من مواقفي؟ وأي إنسان يصنعه صمتي؟ هل أنا تلك الحرة التي تزعم أنها تختار، أم أنني ببساطة ضحية لأوهام الحرية؟


في غمرة هذا الحوار الذاتي العنيف، أتذكر أن سارتر لم يترك لنا مخرجاً: حتى عدم الاختيار هو اختيار بحد ذاته.
فإذا كان وجودي يسبق جوهري، فأنا وحدي من يملأ هذا الفراغ بمواقفي، يعني أن كل فعل نتخذه هو إعلان عن هويتنا وكينونتنا.


لكن ماذا يحدث عندما تتحول المواقف إلى مجرد صدى لصوت الضمير، دون أن تترجم إلى فعل؟
هنا تكمن المفارقة الوجودية الأكثر إيلاماً: أن تكون حراً يعني أن تتحمل وزر حريتك، وأن تختار الصمت أمام الظلم يعني أن تشارك في صنعه، ففي أي مكان أقف أنا بين حرية الاختيار ومسؤولية الفعل؟


في كل مرة يمتد فيها جرح غزة، يتردد صداه في أرجاء العالم كنداء لا يمكن تجاهله، ليس لأننا مجبرون على سماعه، بل لأن صوت الحقيقة لا يمكن أن يُكتم، حين نتحدث عن غزة، لا نتحدث عن مأساة بعيدة أو قصة تُحكى على ألسنة الغرباء، بل عن واقع يشدنا إليه بعمق إنسانيتنا.


أن نتخذ موقفاً من غزة ليس قراراً عابراً أو تأييداً لحظياً، بل هو امتداد لنداء داخلي يختبر صدقنا قبل أن يختبر معرفتنا، نحن لسنا مجرد كائنات تُقيّدها قوالب أو تُسيّرها شعارات، بل أرواح تبحث عن الحق وتسعى إلى العدالة.


الوجود، كما يراه جان بول سارتر، ليس محطة ثابتة يُحاصر فيها الإنسان كما تحاصر الطيور في الأقفاص، بل هو انطلاقة حرة تتشكل فيها الذات عبر الأفعال والقرارات.


هذا التصور الفلسفي عن «الوجود يسبق الماهية» يتحدى كل التصنيفات المعلبة التي يُراد لنا أن نقبلها كمسلمات، ويُعيد تشكيل علاقتنا بالأحداث التي تحيط بنا.


أحداث غزة ليست مشهداً عابراً يُكتفى منه بمشاهدة الدمار وتبادل مشاعر الأسى؛ إنما هي صرخة تكسر القيود المفروضة على وعينا وتُخرجنا من دائرة الصمت والمراوغة إلى ساحة الفعل والتحرر، هنا، حيث تكون الحرية هي وقود الإرادة، والمسؤولية هي معيار الصدق.


إذا كان الإنسان وفقاً لسارتر كائناً حراً، فإن هذه الحرية لا تُمنح له كهدية معلبة من مجتمع أو سلطة، إنها معركة يخوضها الإنسان مع ذاته، يحطم خلالها الأقفاص الأيديولوجية التي تُحاول فرض مواقف جاهزة عليه.


في مسألة غزة، يتخذ الحُر، موقفاً يتجاوز الشعارات الجوفاء والتعاطف العابر، إنه يضع نفسه أمام مرآة الحقيقة، يسائلها دون خوف من الإجابات، هل أنا صادق في تضامني؟ هل أتخذ موقفاً عن وعي أم أركض خلف القطيع؟


يقول سارتر: “الإنسان محكوم عليه بأن يكون حراً”، وهذه الحرية ليست مجرد ترف فكري، بل مسؤولية تُقاس بمدى قدرتنا على اتخاذ قرارات واعية بعيداً عن ضجيج الجماهير وضغوط الإعلام.


الحرية كما يراها سارتر ليست مجرد كلمة تُحلق في فضاء الخطابات، بل هي فعل يتجسد في الواقع، أن نكون أحراراً يعني أن نتحمل المسؤولية عن خياراتنا، سواء كانت كلمات أو أفعالاً، هذه المسؤولية تمتد لتشمل موقفنا تجاه غزة، فأن نقول إننا متضامنون دون أن نُترجم ذلك إلى أفعال، هو نوع من الزيف الذي يُهدم مفهوم الحرية ذاته.


بينما يتحدث البعض عن غزة وكأنها مجرد قضية موسمية تُستحضر على موائد النقاش الافتراضية، يظهر الزيف في تناقض الأفعال مع الأقوال، وفي اختزال المواقف إلى بيانات جوفاء لا تُترجم إلى فعل حقيقي.
الزيف هو حين نتخذ موقفاً لا لذاته، بل للظهور أمام الآخرين.


أما الأصالة، فهي التي تنبع من وعي عميق وإيمان بأن العدالة ليست مجرد شعار، بل قيمة تُحيا عبر المواقف الصادقة، فالموقف الأصيل من غزة لا يُختزل في منشور عابر أو بيان فارغ، بل هو التزام دائم، يتجدد مع كل شهيد، ويتَّـقِد مع كل صرخة استغاثة.


الزيف يتجلى عندما ننحاز إلى المواقف الأكثر شيوعاً لتجنب الانتقادات، أو عندما نخشى التعبير عن الحقيقة خوفاً من المواجهة، إنه قناع يرتديه البعض ليحظى بالقبول الاجتماعي أو ليتجنب المواجهة مع قناعاته الحقيقية، بينما الأصالة هي ثورة دائمة ضد هذا الزيف، موقف يتجاوز الصيحات الرائجة ويتصل بجوهر القيم الإنسانية.


إن واجبنا هو تحرير الفكر من قيود التصنيفات الجاهزة، فأولئك الذين يحاولون حصرنا في أطر ضيقة من الولاءات والانتماءات يغفلون عن حقيقة أن القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع سياسي أو ديني، بل هي مأساة إنسانية يتداعى لها ضمير البشرية.


الأفكار المؤطرة هي محاولة لتسطيح الواقع، وإخفاء بشاعته تحت أقنعة المصلحة والمنفعة، أما المفكر الحر فهو الذي يرفض هذه الأقنعة، ويتخذ موقفاً يتجاوز الأيديولوجيات إلى جوهر المأساة نفسها.


تحطيم الأقفاص يتطلب شجاعة فكرية قادرة على رفض الانقياد خلف التصنيفات الجامدة، إنه وعي يتجاوز سطحية الخطابات الإعلامية والسياسية إلى عمق التجربة الإنسانية، هذا الوعي هو ما يجعل من التضامن مع غزة قضية ضمير، لا مجرد موقف سياسي.


فما الذي تريده منّا غزّة؟؟


غزة لا تريد منا أن نتحدث عنها بشاعرية زائدة أو أن نصوغ قصصاً مؤثرة نكتبها ثم ننساها، غزة لا تريد منا عواطفاً مؤقتة أو ردود فعل تنتهي مع نهاية نشرة الأخبار..


غزة تريد منا أن نكون صادقين، أن ننظر إليها كقضية حقيقية، لا كعنوان مثير أو موضوع مؤقت، غزة تريد منا أن نعترف بأنها ليست مجرد مأساة مستمرة، بل مكان يعيش فيه أناس يحلمون ويعانون ويموتون دون أن تتغير حياتهم فعلياً.
ما تريده غزة هو الفعل، لا الكلمات، الدعم الذي لا يتوقف عند التعاطف العابر أو الحملات الموسمية، غزة تريد أن تُسمع أصواتها كما هي، لا كما نحب أن نرويها.


ما تريده غزة منا هو أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً، أن نقرر هل نحن فعلاً نقف إلى جانب العدالة والإنسانية، أم أننا نكتفي بتجميل مواقفنا دون أن نفعل شيئاً حقيقياً؟


غزة لا تريد الشفقة، بل الاحترام، لا تريد المجاملة، بل الوقوف معها دون تردد.


تجاه غزة، يمكن أن تتجلى هذه الحرية في صور مختلفة، مثل أن نبحث ونتعلم عن تاريخ القضية الفلسطينية بعيداً عن التحريف والتشويه، أو ان نقوم بتقديم الدعم المعنوي والمادي، سواء كان ذلك عبر التبرعات، أو المشاركة في الحملات الإعلامية، أو نشر الحقيقة، يمكننا حتى استخدام الأدب، والفن، والمسرح كأدوات لتسليط الضوء على معاناة شعبنا الفلسطيني وكسر جدران الصمت، من خلال الكتابة، والمحاضرات، والمناظرات التي تفضح الزيف وتُظهر الحقيقة دون خوف من الرقابة أو الانتقاد، والأهم من هذا كله أن يكون التضامن مع غزة قضية متجددة، لا مجرد انفعال مؤقت أو موقف موسمي.


الموقف الحقيقي من غزة ليس مجرد إعلان تضامن، بل هو فعل صادق يتجاوز الأقوال إلى العمل، إنه موقف يتشكل من رؤية واعية ومتفحصة، ومن إرادة لا تنحني لضغوط العالم.


نحن أحرار في اختيار مواقفنا، ومسؤولون عن تبعاتها، وبين الحرية والمسؤولية يتشكل معنى وجودنا، تلك الحقيقة التي لا يمكن أن تُكبلها الأقفاص الأيديولوجية، ولا أن تُطفئها الكلمات الزائفة.


فالإنسان الحُر هو من يخلق هويته بإرادته، ويُحول تضامنه إلى فعل حقيقي يُغيّر الواقع بدلاً من التفاعل معه فقط.

شاهد أيضاً

قاضي قضاة فلسطين ومحافظ سلطة النقد يبحثان تعزيز الدفع الإلكتروني في المحاكم الشرعية

شفا – بحث سماحة الشيخ الدكتور محمود الهباش قاضي قضاة فلسطين مستشار الرئيس للشؤون الدينية …