9:36 مساءً / 10 أبريل، 2025
آخر الاخبار

التعليم والتحرر الفكري: إعادة صياغة الأفق المعرفي، بقلم: ثروت زيد الكيلاني

التعليم والتحرر الفكري: إعادة صياغة الأفق المعرفي، بقلم: ثروت زيد الكيلاني

التعليم والتحرر الفكري: إعادة صياغة الأفق المعرفي، بقلم: ثروت زيد الكيلاني


في عصرٍ تتصارع فيه قوى التوجيه مع طموحات التحرر، يتحول التعليم إلى فضاءٍ للبحث المستمر عن المعنى الأصيل للمعرفة، متجاوزاً بذلك كونه مجرّد عملية إيداع سطحية إلى كونه مشروعاً فلسفياً مُتجدداً يعيد صياغة الوعي الجمعي، فيتحول التعلم إلى أداةٍ مُمَكِّنة لفهم الذات، ولإعادة بناء العلاقة مع الواقع. هذا التعليم لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يفسح المجال للتساؤل الحر الذي لا يلتزم بمحدداتٍ جاهزة، ويفتح أفق الإبداع ليكسر قيود التقليد، ليتحوّل بذلك إلى تجربة تحررية تُرسّخ قيم التفكير النقدي، وتُضيء دروب المعرفة التي لا تُختزل في قوالبٍ جامدة، بل تمتد لتعيد تشكيل الأفق الإنساني برؤيةٍ عميقة ومتجددة في آن واحد.


المجال الأول: التعليم كأداة تحرر فكري وإعادة تشكيل الوعي


حين يُعاد تشكيل التعليم ليكون أداةً لتعريف الذات في سياقاتٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ معقدة، فإنه يتجاوز دوره التقليدي كملقن للمعرفة ليصبح في جوهره فعل مقاومةٍ معرفيةٍ ووجدانية. فالتعليم الذي يُرسّخ الوعي ليس مجرد منهجٍ دراسي، بل فضاءٌ لاستعادة الفكر من قبضة الاستلاب، حيث لا يُقدَّم الدرس كمجرد معلومةٍ تُستهلك، بل كمجالٍ للتأمل النقدي، وإعادة النظر في المسلَّمات، ومساءلة الواقع بدلاً من الامتثال له. وحين يقوم التعلم على البحث والاكتشاف، فإنه يغدو ممارسةً تحرريةً تُقاوم التبعية الفكرية وتُرسخ استقلالية العقل، فيتحول التعليم إلى عمليةٍ ديناميكيةٍ لاستعادة الإنسان لذاته، متجاوزاً قيود الجمود والانقياد.


غير أن هذا النمط التحرري لا يمكن أن ينمو في بيئاتٍ تعليميةٍ تُعيد إنتاج الفكر المقولب والامتثال العقيم، إذ لا يكتمل التعلم إلا بخلق فضاءاتٍ تُشجع التفكير الخلَّاق، وتُفسح المجال للنقد والتحليل المستمر. فالبرامج التعليمية التي تُكرس التكرار الأجوف وتُقصي الحوار تخلق أفراداً مبرمجين لا مفكرين، بينما التعليم القائم على التساؤل العميق وإعادة النظر في الثوابت يُعيد صياغة علاقة الإنسان بالمعرفة. إن التحرر من القوالب الجاهزة لا يعني الفوضى، بل بناء قدرةٍ ذاتيةٍ على اتخاذ القرار الفكري المستقل، بحيث يتحول التعليم من عمليةٍ استهلاكيةٍ إلى رحلةٍ معرفيةٍ تُحوِّل الإنسان من مجرد ملقّمٍ للمعرفة إلى صانعٍ لها.


المجال الثاني: الهوية التربوية وإعادة التأصيل


ليست الهوية مجرد ميراثٍ يُستدعى عند الحاجة، بل هي مشروعٌ دائم التشكل عبر تفاعلٍ مستمر مع المعرفة، والتعليم هو حجر الزاوية في هذا البناء، حين يرسخ التعليم ارتباط الفرد بجذوره دون أن يُغلق عليه أبواب التجديد، فإنه يصنع شخصيةً واثقةً قادرةً على العبور بين التراث والمعاصرة دون أن تفقد توازنها، فالمعرفة التي تُقدَّم في المنظومة التربوية يجب أن تكون جسراً يعبر به المتعلم إلى آفاقٍ جديدة، لا سوراً يعزله عن الانفتاح، ولهذا، فإن أي رؤيةٍ تربوية لا تضع في حساباتها ضرورة التوازن بين الحفاظ على الهوية والانفتاح الواعي، تكون قاصرةً عن تحقيق وظيفتها الحقيقية.
لكن التحدي الأكبر يكمن في تحويل الهوية من مفهومٍ جامد إلى مشروعٍ تفاعلي، أي أن لا يكون التعليم مجرد حارسٍ للذاكرة، بل أيضاً محفزاً على تطويرها، فالتاريخ ليس حكايةً تُروى بقدر ما هو مصدر إلهامٍ لإعادة صياغة المستقبل، وعليه، فإن تأصيل الهوية لا يتم عبر تكرار الماضي، بل عبر استلهامه لتشكيل رؤيةٍ تربوية تُعيد إنتاج الوعي، وهذا يتطلب أن تكون المناهج التعليمية قادرةً على ربط الطالب بتاريخ مجتمعه دون أن تجعله سجيناً له، بحيث لا يصبح الماضي قيداً، بل منطلقاً لرحلةٍ دائمة من البحث عن الذات وتجديد علاقتها بعالمٍ دائم التغير.


المجال الثالث: تمويل التعليم بين الاستقلال والتبعية


يمثل تمويل التعليم أحد الأبعاد الخفية للصراع على المعرفة، إذ لم يعد التعليم مجالاً محايداً، بل أصبح ساحةً لتجاذب القوى التي تسعى لتوجيهه وفق مصالحها، فالتمويل المشروط يفرض أنماطاً معرفيةً تُعيد تشكيل أولويات العملية التربوية بما يخدم مصالح الجهات الممولة، وهنا، يتجلى دور الاستقلالية في بناء منظومةٍ تعليميةٍ قادرةٍ على حماية ذاتها من الانقياد لمشاريع لا تتماشى مع حاجاتها الفعلية، فمن دون استقلاليةٍ حقيقية، يتحول التعليم إلى أداةٍ لإعادة إنتاج أنماط التبعية الاقتصادية والثقافية، وهو ما يفرض الحاجة إلى نماذج تمويلٍ بديلةٍ تقوم على المشاركة المجتمعية والاستدامة المالية بعيداً عن القيود السياسية.


لكن تحرير التعليم من التبعية لا يكون برفض التمويل بحد ذاته، بل في القدرة على توجيهه بما يخدم الأهداف التربوية المستقلة، فالتحدي لا يكمن فقط في تأمين الموارد، بل في ضمان استخدامها بما يتماشى مع رؤيةٍ تعليميةٍ تحافظ على سيادتها المعرفية، وعليه، يصبح من الضروري تطوير سياساتٍ تربويةٍ تُعيد هيكلة التمويل بطريقةٍ تُعزز الاستقلالية ولا تُقيدها، بحيث لا يكون التعليم مشروعاً اقتصادياً خاضعاً لمنطق السوق، بل عمليةً تنمويةً تحترم الحق في المعرفة كجزءٍ من العدالة الاجتماعية، وبهذا، يكون التمويل وسيلةً لدعم مشروعٍ تربوي تحرري، لا أداةً لإعادة إنتاج أنماط السيطرة غير المرئية.


المجال الرابع: نحو رؤية فلسفية للتربية المستقبلية


التعليم ليس مجرد وسيلةٍ لإعداد الأفراد لسوق العمل، بل هو عمليةٌ وجوديةٌ تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والعالم، وحين تكون التربية مشروعا يقوم على التحليل النقدي والتأمل الفلسفي، فإنها تفتح الباب أمام إمكانية إعادة تشكيل المستقبل، فالتعليم الذي يقتصر على إعداد الفرد للوظائف، يُقلص أفقه إلى مجرد أداةٍ للإنتاج، بينما التعليم الذي يُحرر العقل من قيود النفعية الضيقة، يجعله قادراً على الإبداع وإعادة النظر في كل ما يُقدَّم له باعتباره حقيقةً مطلقة.


يتطلب هذا التحول إعادة النظر في الأسس التي تقوم عليها المنظومة التربوية الحالية، بحيث يتم تجاوز الأنماط التقليدية التي تجعل الطالب مجرد متلقٍ سلبي، نحو نموذجٍ يُعزز الحوار والتفاعل الفكري المستمر، فالتعليم القائم على التساؤل يُنتج أجيالاً قادرةً على طرح الأسئلة العميقة بدلاً من الاكتفاء بالأجوبة الجاهزة، وهذا يعني أن المدرسة والجامعة ليستا مجرد مؤسساتٍ لإكساب المعرفة، بل فضاءاتٍ تُشجع على التجربة الفكرية الحرة، وبهذا، يُصبح التعليم مشروعاً للتحرر الذهني، لا مجرد منظومةٍ لإعادة إنتاج المعارف القائمة.


ختاماً، لا ينبغي اختزال التعليم في كونه مجرد خدمةٍ تُقدَّم للمواطنين، بل هو في جوهره مشروعٌ حضاريٌّ يُعيد تشكيل ملامح المستقبل. فإن كان التعليم قائماً على الاستظهار العقيم والاجترار الآلي للمعلومات، فإنه يتحول إلى أداةٍ لإعادة إنتاج الركود الفكري والانصياع غير الواعي، مُكرِّساً ذهنية التلقي السلبي بدلاً من إعمال العقل وإيقاظ الوجدان.

أما حين يتحرر الفكر من إسار الجمود والانقياد، يصبح التعلم عمليةً حيةً تعيد تشكيل الوعي على أسسٍ من الاستقلالية والإبداع. فالمعرفة التي لا تُفضي إلى تفكيرٍ ناقدٍ تظل مبتورة، والتعليم الذي لا يفتح آفاق التساؤل يظل مجرد وسيلةٍ لإدامة الامتثال لا للتحرر. ومن هنا، فإن إعادة النظر في فلسفة التربية ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورةٌ جوهريةٌ لبناء أجيالٍ قادرةٍ على حمل مشروعٍ معرفيٍّ يُرسّخ مجتمعاً أكثر وعياً وإنسانية.

شاهد أيضاً

حسين الشيخ : المؤسسة الأمنية تشكل عصب البناء والحامية لمكتسبات الوطن ومقدراته

حسين الشيخ : المؤسسة الأمنية تشكل عصب البناء والحامية لمكتسبات الوطن ومقدراته

شفا – أكد أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عضو اللجنة المركزية لحركة فتح …