شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .
اثنا عشر ذئبًا على مائدتي “العبث اللامنتهي” ، بقلم : د. انتصار البناء
ظهرت فلسفة العبث في القرن التاسع عشر ووجدت لها رواجا كبيرا أعقاب نتائج الحربين العالميتين. وترى الفلسفة العبثية أو اللاعقلانية أو العدمية أن العالم يفتقد للمعنى والمنطقية، وأن الذين يرون العالم ذا معنى هم يؤمنون بمعنى مفروض عليهم من سلطات أعلى. وقد تجلت العبثية، بصورة كبيرة، في مختلف الفنون، في المسرح والرسم والرواية. وللعبثية مدارسها وإنجازاتها في مضمار الفن ما تضيق المساحة هذه عن التفصيل فيه.
في قصة اثنا عشر ذئبا على مائدتي للروائي البحريني عبدالقادر عقيل، يستدرجنا المؤلف في المقدمة إلى عوالم الغرائبية عبر نص صوفي لعبد القادر الجيلاني، بما يعتري المتصوف من حالات الذهول والعزلة ثم الترقي إلى مقامات والكشف والتجلي، ثم العودة مرة ثانية إلى الذهول والاستغراق. هل وجد «عقيل» علاقة ما بين عوالمه النصية التجريبية وعوالم الجيلاني الصوفية الهائمة عبر اسم العلم «عبدالقادر»؟
هناك أسرار مدفونة في الأسماء، أحاجي يسوقها السرد تبحث عن حل. تروي قصة الذئاب حكاية رحلة طلابية مكونة من المعلم الفلسطيني «عيسى» وأربعين طالبا تبرز منهم أسماء مصطفى وموسى فرج، أسماء العلم هنا لها تعلق بالمقدس، والأرقام المذكورة في النص لها جذورها في الموروث الشعبي والمقدس. أربعون طالبا، اثنا عشر ذئبا، الكهف، وغيرها من الرموز. الرحلة لا تصل هدفها. يعترض المطر والكوارث الطبيعية الطلبة ومعلمهم، فلا ينجو منهم سوى اثني عشر طالبا يلجؤون إلى الكهف. ويمرون بأهوال عجائبية أشبه باللعنة والعذاب التي تصيب الراوي بحالة إغماء يستفيق بعدها وهو في الحافلة عند بدء الرحلة. يحذر الراوي معلمه الفلسطيني من الاستمرار في الرحلة لأنها ستؤدي إلى هلاكهم جميعا، لكن المعلم لا يستجيب له، ليكرر السرد نفسه في دورة لولبية ينام فيها الراوي ويستفيق مرة ثالثة ليجد نفسه في بداية الأحداث، فيحاول منع معلمه من الاستمرار في رحلة الهلاك دون جدوى. إنها فعلا عبثية.
القصة نص متوسط ضمن مجموعة من نصوص أخرى مرقمة وغير معنونة. القصة أقرب إلى القصة القصيرة (الطويلة نسبيا)، وتقترب من أعتاب النوفيلا (الرواية القصيرة) جدا. لعبدالقادر عقيل أسلوبه في تقديم أعماله. ليس ملتزما بتقديم مجموعة قصصية متوازنة أو بناء رواية تخضع لمعايير متفق عليها. إنه يحيك النصوص المتجاوزة غير المتسقة ليخبرنا بشيء عن اللامنطقي، واللامفهوم في هذا الكون. من قال إن هذا العالم متسق منسجم متجانس؟ نحن نعيش فوضى متجددة، وعبثية مستمرة، لم نتمكن من ربط النتائج بأي من الأسباب. نحن لا نعرف الأسباب الجوهرية لكل ما نمر به. فلماذا نتوقع أن يكون النص منطقيا عقلانيا؟ لماذا نبحث عن إجابات في السرد؟ السرد يستفز الأسئلة فينا ويحرض الحيرة في تفكيرنا. السرد انعكاس للعبثية التي نصنعها، وليس إصلاحا لما أفسدناه.
هذه هي رؤية عبدالقادر عقيل السردية للعالم. نص دائري، تستطيع أن تحدد بدايته، لكنك تعجز عن ضبط نهايته. ومفارقة أنك تكرر ذاتك في كل مرة دون الاستفادة من الفرصة الجديدة، دليل أن ليس ثمة حل لأحجيات الكون، وأن الإجابات التي نملكها غير قادرة على حل شفرة الهزائم المتكررة، والكوارث المحققة.
قصة الاثني عشر زميلا الذين نجوا ورفعهم المؤلف، مباغتة، إلى مرتبة الذئاب في العنوان، ذكرتني بواقعنا العربي العصي كلغز سحري. فنحن نعيش سلسلة من النكبات المكررة حد الجنون. سقطت كثير من القيم التي آمنا بها، والأحلام التي سعينا لتحقيقها، والتحولات التي طمحنا لبنائها. وفي مضمار خسائرنا الكبرى من الدماء والجغرافيا، كان أكبر خسائرنا وهزائمنا خسارتنا للمعنى. نحن نتخبط في العبث ونغرق فيه.
