
إصلاحات لا تحتمل التأجيل في فلسطين: بين “الحاجة والمطالبة” ، بقلم: د. علاء رشيد الديك
هناك العديد من المصطلحات مثل: ديمقراطية، إصلاح، مساواة، حرية، عدالة، مواطنة، حوكمة، مشاركة، وغيرهما، أصبح المواطن الفلسطيني يشتاق لها، ليس حباً عاطفياً، وإنما كمبادئ وقيم لروح الإنسانية التي من خلالها يستطيع الإنسان العيش بوطنه بكرامة وإحترام، وعندئذ يشعر بأهمية وجوده وإنتمائه لمحيطه الإجتماعي والسياسي. وما دفعني لكتابة هذا المقال هو أن الحالة الفلسطينية تمر بظروف معقدة تتعلق بوجودنا وصمودنا كشعب صاحب قضية وطنية، الأمر الذي يحتم علينا كفلسطينيين أن نتمسك “بحزم وثبات” بهذه القيم والمبادئ داخل المؤسسة الفلسطينية، بهدف الحفاظ على الإنسان الفلسطيني لتعزيز صموده على ارضه وداخل محيطه قبل فوات الأوان. ولكن لماذا الإصلاح! وما أهمية ذلك وإرتباطه بالحالة الفلسطينية! وما هي التحديات والأفاق المستقبلية لذلك!
إن هدف نضال الشعب الفلسطيني منذ عقود وليومنا هذا مرتبط إرتباطاً وثيقاً بمسارين: التحرر الوطني والبناء الديمقراطي لمؤسسات الدولة الفلسطينية. فالتحرر الوطني مستمر بالتضحية على طريق النضال، ولم تحالفه الظروف بعد لنيل حقوقه المشروعة كما يريد، ولكن “لا بد لليل أن ينجلي”. أما على صعيد البناء المؤسسي، فأعتقد أن المؤسسة الفلسطينية بحاجة لإصلاح حقيقي نابع من إرادة وطنية ومشاركة تعددية تشمل الجهات الرسمية والمؤسسات الأهلية والحقوقية والشخصيات الأكاديمية والمهنية والمستقلة، وغيرهما، لدراسة وتحليل الحالة، ومن ثم وضع برنامج إصلاحي حقيقي، بشكل عادل وشامل ومستدام، ويعمل برقابة دائمة من جهات الإختصاص الإدراية والمالية، وبمتابعة من لجنة وطنية عليا تضع أمامها أولوية المساءلة والمحاسبة والعقاب لضمان فاعلية المؤسسة الفلسطينية إحتراماً لنضالات وحقوق الشعب الفلسطيني، وأهمها حقه في الحياة والعيش بكرامة وإحترام، مع ضمان لحقوقه السياسية والإجتماعية والإقتصادية، كأولوية عظمى.
فالإصلاح هو تحسين وضع أو تعديل ما هو خطأ فيما يتعلق بالأداء على مستوى هيئات ومؤسسات النظام السياسي، ليتلائم مع مبادئ وقواعد الدستور والقانون حسب الأصول. فالإصلاح يسعى لتحسين المنظومة القائمة، ويعد الإصلاح ضرورة لتحسين الخدمات التي تقدم للمواطنين بهدف الحفاظ على كرامتهم وحقوقهم وتلبية إحتياجاتهم كأولوية. وعليه، فإن إصلاح المؤسسة هو السبيل الأنجع للقضاء على كافة مظاهر المحسوبية والتسيب والظواهر البيروقراطية السلبية التي تعيشها بعض مؤسسات وهيئات النظام السياسي الحاكم. وعندئذ يعتبر الإصلاح حاجة ملحة تهدف للتأقلم مع فاعلية التطور والتقدم المؤسساتي فيما يتعلق بالتجديد وتطوير نظم العمل وإرساء الدعائم لإدارة حديثة، وموضوعية ومتعددة وأكثر إنصاف، قائمة على الكفاءة والثقة ونفاذ القانون. فالإصلاح المؤسسي مرتبط بتعزيز حوكمة المؤسسة من أجل استخلاص الدروس المستفادة وتقديم مقترحات لتحسين الأداء المؤسسي، الأمر الذي من شأنه تسريع وتحقيق خطط وأهداف التنمية المستدامة وبناء مؤسسات الدولة الفعالة لمستقبل أفضل.
ومن باب الموضوعية في النقد والنقد الذاتي، وعند تقييم أحد أهم مخرجات أداء المؤسسة الفلسطينية تجاه حادثة الشهيدين الشقيقين عمار وضياء رشيد الديك، رحمهما الله، الذين رحلوا لجوار ربهم بعد أن أخفق جهاز الدفاع المدني الفلسطيني بإنقاذهما من داخل بئر الماء في منزلهما، حيث إنقطع عنهما الأكسجين داخل البئر اثناء تنظيفه بهدف توفير شرب ماء نقي لذويهما، بتاريخ 14 يونيو 2020. وما رافق الحادثة من أحداث وتصريحات صدرت عن محافظ سلفيت السابق، الذي يعمل حالياً محافظاً في مدينة أخرى، ومن بعض الجهات الرسمية وأجهزة الدولة في محافظة سلفيت، مفادها أن الأخوين الديك يتحملون مسؤولية الحادثة وما نتج عنها، دون الإشارة للإهمال والتقصير في إنقاذهما من قبل طاقم الدفاع المدني، وكذلك الإمعان والإصرار على الإساءة لهم ولذويهم بهدف التشويه وخلط الأوراق أمام الرأي العام من أجل التغطية على التقصير والإهمال الذي حدث وأودى بحياتهما. نجد أن أداء المؤسسة والقائمين عليها تجاه تلك الحادثة وما رافقها من أحداث هو غير فعال، ويعتبر أحد أهم معيقات نجاح عملية إصلاح حقيقة وذات مصداقية للمؤسسة القائمة.
والجدير بالذكر أن قامت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان “ديوان المظالم” في فلسطين، بتاريخ 22 نوفمبر 2020، بإصدار تقرير تقصي حقائق بالحادثة، جاء فيه: أن جهاز الدفاع المدني الفلسطيني يتحمل مسؤولية وفاة الأخوين الديك بسبب التقصير والإهمال في إنقاذهما، وأن على الجهات الرسمية وأجهزة الدولة في محافظة سلفيت مراجعة موقفها، والتركيز على عملية الإهمال والتقصير في الإنقاذ من قبل طاقم جهاز الدفاع المدني، وتقييم الجهوزية والأداء للعمل المؤسسي تجاه تلك الحادثة وما نتج عنها، والإبتعاد عن تحميل الضحية المسؤولية بهدف عدم تحمل المؤسسة مسؤولية ما حدث. ولا بد للتنويه هنا أن قضية الأخوين الديك مازالت تنظر في محكمة بداية رام الله العاصمة السياسية المؤقتة، دون الدخول في الأساس، منذ تاريخ 27 مايو 2021، بعد أن أغلقت كافة الأبواب أمام العائلة، وعدم الإستجابة والإهتمام من قبل القيادة السياسية وأجهزة الدولة الرسمية بالحادثة وما نتج عنها، وكذلك عدم الإكتراث بنتائج ومخرجات تقرير تقصي الحقائق الصادر عن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بالحادثة من أجل تعلم دروس وعبر وتحمل المسؤولية تجاه الحادثة وما نتج عنها، والسعي لعمل تحقيق مهني ومستقل، موضوعي وعادل، للوقوف على حقيقة ما جرى.
في المحصلة، نستطيع القول أن مصداقية عملية الإصلاح داخل المؤسسة الفلسطينية تتطلب من أصحاب القرار في القيادة الفلسطينية أخذها على محمل الجد وتحمل المسؤولية تجاه الناس وتضحياتهم الأخلاقية والإجتماعية النبيلة، وخاصة أن الشعب الفلسطيني مازال تحت الإحتلال والظلم والقهر منذ عقود، وقدم الكثير وأغلى ما يملك وهو “الإنسان” في سبيل حريته والحفاظ على كرامته وحقوقه المسلوبة. لذلك لا بد أن تكون عملية الإصلاح حاجة وضرورة ملحة لقياس فاعلية المؤسسة الفلسطينية تجاه حماية وصون حقوق المواطنين وكرامتهم، وليست مطلباً يطلبه ويذكره المظلومين والمقهورين في كل لحظة أمام أبواب المسؤولين، فهي ليست إكسسواراً أو شيئاً مادياً ملحقاً، بل إنها حاجة مقدسة مُسلم بها لكل مواطن بحكم الدين والأخلاق والقانون. فالحاجة للإصلاح هي من الأساسيات التي وجب على اصحاب القرار تطبيقها “بحزم وثبات” في عمل وأداء المؤسسة والقائمين عليها، بإعتبارها خط أحمر لحفظ وصون كرامة الناس وإحترام حقوقهم وفق القانون وكل المواثيق والأعراف الإنسانية والأخلاقية.
وبناءاً على ذلك، فإن مصداقية الإصلاح الحقيقي داخل المؤسسة الفلسطينية سينعكس على تحسين جودة الخدمات العامة المقدمة للناس من خلال تطوير أليات تقديم الخدمة. وكذلك تعزيز الشرعية والمصداقية للمؤسسة من خلال إستعادة ثقة المواطنين. وأيضاً تعزيز صمود الناس وإنتمائهم للوطن والمؤسسة من خلال تعزيز التضامن والتماسك الإجتماعي، ورفع قدرتهم على مواجهة التحديات. في المقابل، فإن أهم معيقات تحقيق المصداقية تجاه العملية الإصلاحية داخل المؤسسة الفلسطينية هو ضعف وغياب الإرادة الحقيقة لقول الحق وتحقيق العدل بهدف صون وحماية حقوق الناس وكرامتهم، والدليل ما حدث مع عائلة وذوي الأخوين الديك رحمهما الله. وأيضاً تعزيز ثقافة المحسوبية لدى بعض المؤسسات والقائمين عليها، وكأنهم فوق القانون. وأخيراً ضعف أليات المحاسبة والمساءلة والعقاب تجاه كل مقصر ومهمل في أداء عمله، والتراخي مع كل معتدي على الناس وحقوقهم وسمعتهم بدون دليل مادي أو قانوني.
إنه نداء قبل فوات الأوان لكل حر ومناضل وحريص على وطنه وشعبه ومؤسسته: إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وقولوا الحق وأقيموا العدل لأنكم ستسألون عنه، وأمضوا من أجل حماية الشعب الفلسطيني ومقدراته وحقوقه، إحتراماً لصموده وتضحياته المقدسة، فهو شعب يستحق الحياة ومستقبل افضل.
د. علاء رشيد الديك، شقيق الشهيدين الشقيقن عمار وضياء رشيد الديك، رحمهما الله. 30/03/2025