12:13 صباحًا / 1 أبريل، 2025
آخر الاخبار

كاملات عقل ودين ، بقلم : عايدة الجوهري

كاملات عقل ودين ، بقلم : عايدة الجوهري

كاملات عقل ودين ، بقلم : عايدة الجوهري

لم أستغرب أن يُثيرَ كتاب «كاملات عقل ودين» للباحثة المصرية أسماء عثمان الشرقاوي، ما أثاره من ردودِ أفعال متشنّجة، أدّت إلى سحبه من معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025، وإلى تجنيد أو تطوُّع جيش إلكتروني لتسفيه أطروحته. وحجّةُ المعترضين أنّ افتراضَ كمال عقل المرأة ودينها يُشكّل انتهاكًا للمسلّمات الموروثة. وتُشير هذه الردود إلى أنّ المعترضين على مضمون الكتاب المذكور يتبنّون على أرض الواقع، تبنّيًا كاملًا، مقولةَ «النقصان الأنثوي»، وما يتفرّع عنها من مفاهيم وتمثُّلات وأحكام وممارسات، وأنّ هذه المقولة تُشكّل حجرَ الزاوية في رؤية هؤلاء إلى مكانة المرأة في الوجود والأسرة والمجتمع والدين، بقطع النظر عن الحقائق الموضوعيّة التاريخيّة التي تنفي نظريّة «النقصان الأنثوي» وبقوة.

ذكّرني نمطُ التفاعل مع كتاب «كاملات عقل ودين»، بالضجّة العارمة التي أحدثها أواخر عشرينيات القرن الماضي كتاب «السفور والحجاب» (1928) للكاتبة اللبنانية نظيرة زين الدين (1908–1977)، والذي شكّل المادة الأساس لكتابي «رمزيّة الحجاب مفاهيم ودلالات». ويتأتّى اهتمامي بالوقع الذي يتركه الكتاب، مطلق كتاب، في عقول قرّائه ونفوسهم، من اعتقادي أنّ النّص هو مشروع دلالي يكتملُ بالقراءة النّشطة، عملًا بـ «نظريّة التلقّي» التي تستهدف المتلقّي بوصفه قطبًا مركزيًّا فعّالًا في كل عمليّة تأويل، منتزعًا السلطة من النّص، تكريسًا لتعدُّد القراءات. فتَلقّي النص هو قراءته أو تقبُّله، الشُّعور به ومعايشته على المستوى الواعي واللاواعي، وقراءة النّص تفضي إلى تفسيره. وهذا التفسير يختلف من شخص إلى آخر، باختلاف الخبرات النفسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة لدى القارئ، وباختلاف السّياقات العامة.

تستحقّ ردود الأفعال السلبيّة والإيجابيّة، التي تستثيرُها الكتابات التنويريّة النهضويّة، منذ قاسم أمين وعلي عبد الرزّاق وطه حسين، وصولًا إلى نصر حامد أبو زيد وسيّد القمني، ونوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وغيرهم وغيرهنّ، دراسةً نقديّةً مستقلّةً عن الدراسة التي تستحقّها وتوجبها النصوص بحدّ ذاتها، مع مراعاة المتغيّرات بين حقبة سياسيّة وتقافيّة وأخرى، بين قارئ وآخر، بين مشروع كاتب وآخر، وبين نصّ وآخر.

من جهتي، اخترتُ أن أُلقي ضوءًا خاطفًا على الضجة التي أحدثها كتاب «السفور والحجاب» لنظيرة زين الدين، كنموذج للكثافة الدلاليّة التي تكتنزها ردود الأفعال حيال نصّ بعينه، والتي درستُها بالتفصيل في كتابي «رمزية الحجاب مفاهيم ودلالات»، الآنف الذكر، نظرًا إلى التشابك النّسبي بين مشروع الكاتبتين، نظيرة زين الدين وأسماء عثمان الشرقاوي، كونهما استندتا إلى التراث الديني لإثبات فرضيّة إنسانيّة علميّة معاصرة، الأولى لإثبات حق المرأة في السفور وحريّة التجوُّل، والتعليم والعمل والاختلاط، على قاعدة اكتمال عقلها ودينها، والثانية لإثبات كمال عقل المرأة ودينها، وكلتاهما انطلقتا من مبدأ أنّ دينَ الإسلام يُساوي بين المرأة والرجل، وأنّ الفقهاء أساؤوا التفسير والتأويل، أو فسّروا وأوّلوا بالأحرى على هدى أهوائهم وأغراضهم.

غير أنّ ما يُميّزُ نظيرة زين الدين هو أنّها لم تكتفي بالتشكيك بصحّة الحديث المنسوب إلى بني الإسلام، بأنّ النّساء «ناقصات عقل ودين»، بل عكفت على إعادة تأويل الآيات القرآنيّة ذاتها لإثبات «المساواة القرآنيّة» بين الجنسين، وعلى توظيف، في هذا السّبيل، ظاهرة قرآنيّة لافتة، وهي مخاطبة الخالق «أولو الألباب» و«من يعقلون» في العديد من الآيات، بأنْ افترضت أنّ الخالق يُخاطب النساء مثلهنّ مثل الرجال، بوصفهنّ مكلّفات مثلهنّ مثل الرجال، ويخضعنَ مثلهم لنظام الثواب والعقاب. لو لم يكن الأمر كذلك لسقطت حجّةُ الخالق عليهنّ وقامت حجتهنّ عليه.

إلى جانب ذلك، طالبت نظيرة زين الدين بحقّ كل مسلم متنوّر ومسلمة متنوّرة في الاجتهاد، مشكّكةً بسلطة الفقهاء المعرفيّة، وسلطة رجال الدين على المؤمنين والمؤمنات، إلى ما هنالك من طروحات تتقاطع مع خطاب عصر النهضة العربيّة في الإصلاح الديني والذي صاغه جمال الدين الأفغاني والطهطاوي ومحمد عبده، ومع الخطاب النسوي الذي انبثق عن ذاك العصر.

لم تذهب الشرقاوي مذهبَ نظيرة زين الدين في تحدّي العديد من المحرّمات والمحظورات، من خلال الإدلاء برأيها في موضوعات شائكة لا يفتي فيها سوى الرجال. وكان هدف الشرقاوي البحثيّ مجدّدًا هو نفي صحّة الحديث الشهير المنسوب إلى النبي «ناقصات عقل ودين»، بالاستناد إلى جملة من الأحاديث النبويّة خصوصًا. ولكنّهما تتشابهان بإعادة قراءة النصوص الدينيّة على ضوء مفهوم المساواة بين الجنسين، وبنفي تهمة النقصان التي تلاحق المرأة، كما إنّهما تتشابهان بامتلاك الجرأة الأدبيّة الكافية لإعادة تفسير النصوص الدينيّة بما يخدم قضيّة المرأة، في الوقت الذي يحتكر فيه الرجل حق التفسير والاجتهاد منذ حوالي أربعة عشر قرنًا، مفسّرًا كما يهوى الآيات والأحاديث التي تخصّ المرأة.

الحملة ضد نظيرة زين الدين:

صدر كتاب «السفور والحجاب» عام 1928 في بيروت، في ظل الانتداب الفرنسي، وبعد إعلان دولة لبنان الكبير بثمانِ سنوات، وفي ظل انقسام بيروت السياسي والاجتماعي والثقافي، بين مؤيّدٍ للانتداب ورافضٍ له، بين مُطالبٍ بالانضمام إلى سوريا ورافضٍ له، بين مؤيّدٍ للحداثة ورافضٍ لها، بين مؤيّدٍ للغرب ورافضٍ له، بين مؤيّدٍ للسفور ورافضٍ له، إلى ما هنالك من تناقضات انعكست بمجملها على ردود أفعال قُرّاء كتاب «السفور والحجاب» السلبيّة منها والإيجابيّة. فتخطّى التفاعل الإيجابي مع طروحات نظيرة نطاقَ لبنان إلى البلدان العربيّة، إلى مصر والعراق وسوريا وبلاد المهجر، الولايات المتحدة الأميركيّة والمكسيك والأرجنتين والبرازيل، حيث يُقيم صحافيّون لبنانيّون يعملون في صحف لبنانيّة تأسّست في المهجر، فتفاعل معها من على منابر الصحف، أو عبر رسائل شخصيّة، مفكّرون وأدباء وشعراء وصحافيّون، رجال دين وإصلاحيّون، واقتصرت الحملة الرافضة لهذه الطروحات على ساحات بيروت.

كانت بيروت موطنَ الحملة ضدّ نظيرة، وثار ضدّها بعض أعيان بيروت الذين فقدوا بفعل الانتداب الفرنسي (1918-1943) نفوذَهم، من أمثال الشيخ مصطفى الغلاييني الذي ترأّس الحراك النخبوي والشعبي البيروتي ضدها، تحت شعار المؤامرة والمعاداة للإسلام ومجاراة الغرب. فنسب الغلاييني، من على منبر جامع المجيدية، كتاب «السفور والحجاب»، وبسهولة فائقة، إلى المبشّرين واللادينيين والملحدين. ووُزّعت مناشيرُ على أبواب الجوامع وفي الشوارع، تُهاجم النصارى وتتّهمهم بالتحريض على سفور المسلمات، لانتهاك عفافهنّ. وتمّ تهديد باعة كتابها بالأذيّة، ودخل بعضهم إدارة الصحف المؤيّدة للسفور وهدّدوها بالأذيّة، إذا استمرّت بإثارة الموضوع، وآخرون دخلوا إلى بعض مراكز السلطة، راجين أن تحذو الحكومة حذوَ حكومة دمشق التي تدخّلت لمنع سفور النساء بقوة الشرطة، وعُلّقت إنذارات بالقتل على أبواب منازل أنصار السفور، وتعرّضت الكاتبة نفسها لمحاولات قتل عدّة، نجت منها بأعجوبة.

وعلى وقع الحملة الميدانيّة الرهيبة ضد نظيرة زين الدين، انكبّ البعض على تدبيج الكتب والمقالات المطوّلة، للتشهير بها ودحض طروحاتها، أبرزهم الشيخ مصطفى الغلاييني نفسه، الذي أصدر كتابًا تحت عنوان «نظرات في كتاب السفور والحجاب، المنسوب إلى الآنسة نظيرة زين الدين»، مشككًا في أن تكون نظيرة ابنة العشرين عامًا وخرّيجة مدارس الراهبات والمدرسة العلمانيّة، هي محرّرة الكتاب؛ وكتاب الشيخ سليم حمدان «المدنيّة والحجاب»، الذي هاجم فيه هذا الأخير السلطة الانتدابيّة متّهمًا إيّاها بالتخطيط لإفساد المرأة المسلمة، كما نُظمت ضدّها قصائد وقراديات وأراجيز، كان بعضها يُتلى على أبواب الجوامع.

في المقابل، استنهض كتابُ نظيرة زين الدين الكتّابَ والشعراءَ النهضويّين، اللبنانيين والعرب، فهبّوا للدفاع عن طروحاتها، فأثنى على كتابها أمين الريحاني وخليل مطران ورشيد سليم الخوري، وعلي عبد الرزّاق صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وإسماعيل مظهر، ومجد الدين حفني ناصف، ومحمد كرد علي، ومعروف الرصافي، وهدى الشعراوي، وروز حداد، وعزيزة الطيبي، وغيرهم وغيرهنّ، وعددٌ لا يُحصى من الصحافيين التنويريين في لبنان والمهجر.

ويدلُّ احتفاءُ النهضويين والنهضويّات بنظيرة زين الدين وكتابها، على تماهيهم وتماهيهنّ مع طروحاتها، وأنّهم وجدوا في طروحاتها مرآةً لأشواقهم وأحلامهم، وتحدّيًا للخطاب الأصولي، وانفتاحًا على الحداثة والتحديث، وانتعاشًا للخطاب الحداثوي في ظل تراجُع الخطاب النهضوي الحداثوي مع دخول البلدان العربيّة في طور الاستعمار الغربي، وصعود التيّار السلفي، الذي تمثّل في مصر بظهور حركة حسن البنا، ومع نشوء الدولة الوطنيّة الحديثة، وغيرها من المتغيرات.

دلّت الحملة المجلجلة ضدّ نظيرة زين الدين وكتابها، وضدّ السفوريين سواءً بسواء، على الذعر الهستيري الذي أصاب التقليديين والسلفيين، لأنّه يمسّ بالصميم منظومة المفاهيم الذكوريّة المبنيّة على سيطرة الذكور على الإناث، والتي كان يُعبَّر عنها في ذلك الحين بفرض الحجاب على النساء وبحجبهنّ عن الأنظار، ومنعهنّ من الخروج من المنزل إلاّ برفقة محرم، وللضرورة القصوى. كما تدلّ هذه الحملة على استفظاع رجال الدين والفقهاء والتقليديين أن تتجرّأ أنثى على تأويل الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، في الوقت الذي يحتكر فيه الذكر منذ الأزل حقّ تفسير الدين، دون إشراك المرأة، علمًا أنّها مكلّفة وتثاب وتعاقب وأنّ القرآن يخاطبها.

نحن قمنا بإلقاء نظرة بانورامية على الأصداء التي تركها كتاب نظيرة زين الدين «السفور والحجاب»، من وحي الضجّة التي أحدثها كتاب أسماء عثمان الشرقاوي «كاملات عقل ودين»، رغبةً منّا في إبراز أهميّة تحليل الأصداء التي يتركها مُنجَز فكري جديد وجريء ومؤثّر، بوصف هذا التحليل أحدَ أشكال قياس الحالة الفكريّة والقيميّة التي تحكم المجتمع بكل تناقضاتها، دون أن ندّعي بأيّة حال التطابق التام بين ردود الأفعال التي تلت صدور كتاب نظيرة زين الدين، وبين تلك التي أعقبت صدور كتاب أسماء عثمان الشرقاوي، لاختلاف السياقات والمتغيّرات وأهداف الكتابين، رغم وحدة المنطق والمنهج، ووحدة الهدف الأخير وهو تصحيح المفاهيم حول قيمة المرأة ومكانتها في الوجود والمجتمع والدين.

إنّ ردود الأفعال القوية على كتابات النساء لَهي دليلٌ إضافيٌّ على اكتمال عقلهنّ.

شاهد أيضاً

أسعار الذهب اليوم

أسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت أسعار الذهب اليوم الأثنين 31 مارس كالتالي :عيار 22 65.200عيار 21 62.300