
الأخت والصديقة منال الخطيب ، قلبٌ كبير، وأثرٌ لا يُمحى ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
هناك أشخاصٌ يمرّون في حياتنا مرور النسيم العابر، وهناك من يتركون أثرًا يشبه نقشًا على الحجر، لا تمحوه الأيام، ولا تغيّبه المسافات. هؤلاء هم القلوب النقية، والأنفس الطاهرة، والأرواح التي تعطي بلا مقابل، تمامًا كما كانت، وكما ستظل، الصديقة والزميلة والأخت منال الخطيب.
منال… المعلمة قبل الحرف، والمربية قبل المنهج
عرفتُ منال خلال عملي في المدرسة، وكانت مثالًا حيًا للمعلمة التي لا تكتفي بنقل العلم، بل تسكبه في قلوب طلابها كنبعٍ من الحنان، تُضيء عقولهم وتغمر أرواحهم بالدفء. لم تكن مجرد معلمة، بل كانت أمًا ثانية لكل طالب وطالبة، تزرع فيهم الحب قبل الحرف، والأخلاق قبل الدرس، والضمير قبل النجاح.
وكان لي الشرف أن تكون زميلةً لي، ومعلمةً لابنتي تاليا في الصف الثاني. وكم كنت مطمئنةً وسعيدة، لأنني أعلم أن هناك من يرعاها بحبٍ وإخلاص، كما لو كانت ابنتها تمامًا.
الموقف الذي لن أنساه… عندما منحتني وقتها بلا تردد
قد يُقاس حب الإنسان بما يقدّمه للآخرين، لا حين يكون مرتاحًا، بل حين يكون متعبًا ومرهقًا، ورغم ذلك يُصر على العطاء. وهذا ما لمسته في منال يوم احتجتُ إلى الخروج من المدرسة باكرًا، وكان لدي حصة أخيرة لا يمكنني تفويتها، فقد كنت بحاجة للذهاب إلى الجامعة.
ورغم أن منال كانت متعبة، وكان ذلك وقت استراحتها الوحيد، إلا أنها أصرّت على أن تأخذ الحصة عني. لم تكن مجرد مساعدةٍ عابرة، بل كانت دليلًا على قلبٍ لا يعرف إلا البذل، وروحٍ لا تتوانى عن العطاء، وكأنها خُلقت لتكون نبعًا لا ينضب من الخير.
أما ثانية لتاليا… حين امتدت يدها لتساند ابنتي
ولأن القلوب الطيبة لا تتوقف عن العطاء، فقد كانت منال أماً ثانيةً لتاليا، لا في الصف فقط، بل في كل وقتٍ احتاجتها فيه.
ذات يومٍ، كنتُ مشغولة بمشاركةٍ في مؤتمرٍ عبر الإنترنت في ماليزيا، وفي الوقت ذاته كان على تاليا أن تستعد لإملاءٍ وورقة عمل. وعندما انتهيتُ من المؤتمر، وجدتُ أن تاليا قد أنهت كل شيءٍ بسلاسة، وكتبت الإملاء دون أن تواجه صعوبة.
وحين سألتها كيف فعلت ذلك، أجابتني بابتسامةٍ بريئة:
“خالتو منال درستني إياهم بحصة الفن، وحتى بالفرصة!”
يا الله، ما أروعكِ يا منال! أيُّ قلبٍ هذا الذي يُدرّس في وقت استراحته؟ أيُّ إنسانٍ هذا الذي لا يرى في التعليم واجبًا، بل رسالةً يحملها بصدقٍ وحب؟
حتى في مرضها، لم تتوقف عن العطاء
لم يكن حب منال لطلابها مجرد كلماتٍ تقال، بل كان أفعالًا تثبتها يومًا بعد يوم. أذكرُ يومًا أجرت فيه عمليةً جراحية، وكان لديها إجازةٌ مرضيةٌ تستحقها عن جدارة.
لكنها، برغم التعب، وبرغم حاجتها للراحة، لم تحتمل أن تبتعد عن طلابها، ولم تستطع أن تتركهم دون متابعةٍ واهتمام. فقطعت إجازتها، وعادت إلى المدرسة، ليس لأنها مجبرة، بل لأنها كانت ترى في التعليم رسالةً مقدسة، وفي طلابها أمانةً لا تُضيّع.
يا منال… لمثلكِ تُرفع القبعات
هناك أشخاصٌ يتركون في حياتنا بصمةً لا تُمحى، وأنتِ يا منال واحدةٌ من أولئك الذين يُشبهون الشموع، يحترقون ليضيئوا لغيرهم الطريق، ويُشبهون الأشجار، يُظللُون من حولهم بحبهم، ويُثمرون خيرًا أينما حلّوا.
شكرًا لكِ من القلب، لأنكِ كنتِ دائمًا الأخت والصديقة، والمربية والمعلمة، واليد التي تمتد بالعطاء دون أن تنتظر المقابل.
شكرًا لكِ، لأنكِ كنتِ دومًا الأثر الطيب الذي لا يُنسى، والنور الذي يضيء حتى في غياب الشمس.
إنما الإنسانُ أثر، وأثركِ سيظل خالدًا في قلبي مدى العمر.