2:10 مساءً / 30 مارس، 2025
آخر الاخبار

عام 2030 ، هندسة المستقبل أم إعادة إنتاج الهيمنة؟ ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

عام 2030 ، هندسة المستقبل أم إعادة إنتاج الهيمنة؟ ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

عام 2030: هندسة المستقبل أم إعادة إنتاج الهيمنة؟ ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني


لقد أصبح عام 2030 نقطة ارتكاز في الخطاب التنموي العالمي، حيث يجري تقديمه بوصفه منعطفًا حضاريًا يؤذن بولادة عالم أكثر عدالة، تتلاشى فيه الفوارق الصارخة بين الشعوب، وينتصر فيه العقل الجمعي على نزعات الهيمنة والاستغلال. لكن القراءة النقدية لهذا الطرح تقتضي مساءلة البنى العميقة التي تحكم النظام العالمي، وفضح الميكانيزمات التي تضمن إعادة إنتاج علاقات القوة ذاتها بأدوات أكثر حداثة، ولكنها لا تقل استبدادًا عن الأنماط التقليدية للسيطرة. فهل نحن أمام مشروع إنساني أصيل، أم أننا بصدد هندسة اجتماعية مقنّعة تستهدف إعادة تشكيل الوعي الجمعي وفق أنماط اقتصادية ومعرفية تضمن استمرار سيادة القوى العظمى؟


التنمية كأداة للضبط: خطاب تحرري أم آلية للإخضاع؟


عند تفكيك الخطاب التنموي السائد، نجد أنه يقوم على فرضيات تُروَّج باعتبارها حقائق موضوعية لا تقبل النقاش، مثل ربط النمو الاقتصادي بالرفاهية العامة، أو تقديم العولمة بوصفها شرطًا حتميًا للتقدم. لكن هذه الأطروحات تتجاهل أن التنمية، كما يتم التبشير بها، ليست عملية محايدة، بل هي جزء من مشروع أيديولوجي يخدم مراكز القوة العالمية. فالدول الصناعية الكبرى، التي تتحكم في المؤسسات المالية والتجارية الدولية، تمارس نوعًا من “العنف الرمزي”، على حد تعبير بيير بورديو، حيث تُعيد صياغة مفاهيم التنمية والاستدامة وفق رؤيتها الخاصة، وتفرضها على بقية العالم باعتبارها النموذج الوحيد الممكن.


أما في المجال التربوي، فإن أحد أبرز تجليات هذه الهيمنة هو إخضاع المعرفة لمنطق السوق، حيث لم يعد الهدف من التعليم تكوين مواطن مفكر قادر على النقد والتحليل، بل إنتاج أفراد يمتلكون “كفاءات تشغيلية” تتناسب مع حاجات النظام الاقتصادي العالمي. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: فالتحوّل من “التربية التحررية” إلى “التدريب المهني التقني” يعني، ضمنيًا، إلغاء دور المدرسة بوصفها فضاءً لإعمال العقل وتكوين الوعي الذاتي، وتحويلها إلى مجرد مصنع لإنتاج موارد بشرية تخدم منظومة الإنتاج الرأسمالي.


التعليم بين الترويض والتحرر: أي مستقبل للعقل الإنساني؟


إذا كان جون ديوي قد دعا إلى “التربية من أجل الديمقراطية”، بوصفها وسيلة لتحرير الإنسان من قيود التلقين والانصياع، فإن ما نشهده اليوم هو نقيض ذلك تمامًا. فبدلاً من تعزيز التفكير النقدي، يتم الترويج لمنظومات تربوية تقوم على “الكفاءات القابلة للتسويق”، حيث تُستبعد الفلسفة والعلوم الإنسانية لصالح المهارات الحياتية والتقنيات التطبيقية.


إن استبعاد الفلسفة ليس مجرد تغيير في المناهج، بل هو جزء من مشروع أوسع لإعادة تشكيل العقل الجمعي، بحيث يتم تجريد الإنسان من أدوات التحليل العميق، ودفعه إلى القبول بالواقع كما هو، دون مساءلته. وكما يقول هربرت ماركوز في “الإنسان ذو البعد الواحد”، فإن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة تعمل على خلق نمط من التفكير الأدائي الذي يُقصي الأسئلة الوجودية الكبرى، ويُبقي الإنسان حبيساً في دائرة الإنتاج والاستهلاك.


الذكاء الاصطناعي وسلطة الخوارزميات: من يحكم من؟


يتم الترويج للتحوّل الرقمي باعتباره قاطرة التقدم الإنساني، لكن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: من يتحكم في هذه التكنولوجيا؟ ومن يحدد مساراتها؟ إن الرقمنة ليست مجرد انتقال تقني، بل هي إعادة هيكلة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وفق منطق جديد للسلطة، وفي هذا السياق فإن السلطة لا تُمارَس فقط عبر القمع المباشر، بل من خلال “بنى المعرفة” التي تحدد ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه. وبهذا المعنى، فإن الذكاء الاصطناعي، والتحوّل الرقمي، والبيانات الضخمة ليست مجرد أدوات محايدة، بل هي امتداد لمنظومة الهيمنة التي تعيد تشكيل الأفراد والمجتمعات وفق معايير تحددها مراكز القوة العالمية.


أزمة المناخ بين الاستعمار البيئي والمسؤولية الأخلاقية


لطالما قُدمت القضايا البيئية بوصفها مسؤولية جماعية، لكن القراءة المتأنية تكشف أن التغير المناخي هو في جوهره نتاج مباشر للنظام الاقتصادي القائم على الاستغلال غير المحدود للموارد. ورغم أن الدول الصناعية الكبرى هي المسبب الرئيسي للأزمة البيئية، فإنها تسعى إلى تصدير تكلفة الحلول إلى الدول النامية، من خلال فرض سياسات بيئية صارمة عليها، في الوقت الذي تواصل فيه عملياتها الصناعية والتجريبية التي تؤدي إلى تفاقم الأزمة. إن هذا النمط من التعامل مع المناخ يُعيد إنتاج منطق “الاستعمار الاقتصادي”، حيث تُحمَّل الدول الفقيرة عبء الإصلاحات البيئية، في حين تواصل القوى الكبرى استنزاف موارد الكوكب دون مساءلة حقيقية.


ما بعد 2030: نهضة إنسانية أم إعادة إنتاج للتبعية؟


إن الرهان على عام 2030 بوصفه نقطة تحول عالمي يتطلب رؤية أكثر تعقيدًا تتجاوز السرديات الرسمية، وتنفذ إلى البنى العميقة التي تحكم العلاقات الدولية. فإذا كان العالم يسير نحو مزيد من الرقمنة، والتخصص المهني، والتبعية الاقتصادية، فهل نحن أمام تحوّل حقيقي، أم أننا بصدد “حداثة زائفة” تُعيد إنتاج اللاعدالة بأدوات أكثر نعومة؟


إن السؤال الجوهري هنا ليس عن الخطط والسياسات، بل عن الفلسفة التي تحكم هذه السياسات. فإذا كانت التنمية تُختزل في مؤشرات اقتصادية، والتعليم يتحوّل إلى تدريب وظيفي، والتكنولوجيا تُستخدم لإحكام السيطرة، فإننا لسنا بصدد مشروع تحرري، بل أمام إعادة هندسة للإنسان وفق منطق يخدم القوى المسيطرة.


وفي ظل هذا الواقع، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن في قبول هذا المستقبل كما يُراد له أن يكون، بل في استعادة الإنسان لقدرته على التفكير والتساؤل والمقاومة، بحيث لا يكون عام 2030 محطة جديدة لإعادة إنتاج التبعية، بل لحظة وعي تاريخية تُعيد الاعتبار للإنسان كذات فاعلة، لا كأداة في آلة اقتصادية عمياء.

شاهد أيضاً

" وكالة شفا " تهنئكم بمناسبة حلول عيد الفطر السعيد

” وكالة شفا ” تهنئكم بمناسبة حلول عيد الفطر السعيد

شفا – تتقدم إدارة شبكة فلسطين للأنباء شفا وكافة العاملين بها بالتهنئة الحارة من الأمتين …