
أحياء يرزقون ، الشـــــهيد أحمد فتحي صلاح ، بقلم : الأستاذ جندل صلاح
يا لهذا القلب الذي يضيق بوجعه حين يرحل الأحبة، ويا لهذه الأرض التي تزداد طُهرًا بدماء الصالحين، فتزهر مقاماتهم في جنان الخلود، ويظل ذكرهم عطرًا لا تذيبه الأيام. نودّع اليوم فارسًا جديدًا، وروحًا نقية حلّقت إلى بارئها مخضبة بصيامها وقيامها، مُعطّرة بآيات الله، ومضمخةً بنور الإيمان.
أحمد فتحي صلاح، أو كما كان يُنادى: أبو عمر، ذاك الحافظ الذي جعل من آيات الله سراجًا يضيء دربه، والذي نقش في قلبه البقرة وآل عمران حديثًا، وكان يُمنّي النفس أن يختم القرآن، لكنه ارتحل قبل أن يتمه، لعلّه يكمله في الفردوس الأعلى، حيث لا تعب ولا فراق. كان صائمًا، قائمًا، لا تفتر روحه عن السعي إلى بيوت الله، منذ مطلع رمضان وهو يغادر بلدته كفرذان إلى مدينة جنين كل يوم، ليحضر مجالس العلم، ويتلو القرآن، ثم يُفطر على تمراتٍ وماء في المسجد، ويصلي العشاء والتراويح عشرين ركعة، ثم يعود إلى بيته، أحيانًا على قدميه حين ينقطع السير، لكنه لم يشكُ يومًا، ولم يتذمّر، فقد كان السعي إلى الله عنده عبادة، والتعب في سبيله شرفًا.
بالأمس، كان يوزع الحلوى على المصلين، واليوم هم يوزّعون الدعوات والدموع على روحه الطاهرة! بالأمس، كان يؤمّهم بآل عمران، واليوم يرفعون الأكف له بالرحمات، بالأمس كان يبتسم فرحًا بأن عمر، طفله المشاكس، بدأ بحفظ القرآن ووصل إلى سورة البينة، واليوم يُبكيه عمر الذي فقد والده قبل أن يُكمل المسير معه.
يا وجع القلب، حين يُقتل العابد في طريقه إلى الله، حين تصبح خطواته إلى بيت الله آخر ما تخطّه قدماه في الدنيا، حين تتحوّل لحظة السعي إلى لقاء محتوم، ويا وجع القلب حين تُقابله آلية بوز النمر لا لتحمله إلى المسجد، بل لتهرس جسده الطاهر عن عمدٍ وإصرار، وكأن هذا العالم لم يعد يتسع لمن يحمل في قلبه نور القرآن!
لكنهم، وإن ظنوا أنهم بقتل الأجساد يطفئون النور، فإنهم واهمون! فأحمد لم يمت، بل ارتقى، صعدت روحه من بين الركعات والسجدات، من بين صفحات المصحف الذي لم يفارقه، من بين الحروف التي كان يخطّها بلسانه قبل قلمه، ليظل أثره حيًّا لا يُمحى، يظل صوته يتردد في جنبات المسجد، يظل دعاؤه يتصاعد إلى السماء، يظل خطاه محفورة في دروب العلم والإيمان.
“وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ” (آل عمران: 140).
رحمك الله يا أبا عمر، تقبّل الله صيامك وقيامك وشهادتك، وجعل مقامك في الفردوس الأعلى، حيث الصلاة لا تنقطع، وحيث صوتك يتردد بين الملائكة، قارئًا لا ينتهي، عابدًا لا ينطفئ، وحيًّا لا يموت.