
الأستاذ غازي سمور ، رجلٌ من طِرازٍ نادر، وأثرٌ لا يُنسى ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
تمرّ في حياتنا شخصياتٌ نادرة، تحمل بين جنباتها الطيبة، والتواضع، والأخلاق الرفيعة، شخصياتٌ لا تملك أمامها إلا أن تُجلّها وتحترمها، لأنها ببساطة تجعل العالم من حولها أكثر دفئًا وإنسانية. ومن بين هؤلاء الذين تركوا في حياتي أثرًا طيبًا لا يُمحى، الأستاذ الفاضل غازي سمور، الرجل الذي حمل في قلبه حبّ العطاء، وجعل من مساعدة الناس نهجًا ثابتًا في حياته.
رجلٌ لا يبخل بالعطاء
كان الأستاذ غازي سمور موظفًا مسؤولًا في البلدية، يؤدي عمله بكل إخلاصٍ وتفانٍ، فلم يكن مجرد موظفٍ يؤدي مهامه، بل كان إنسانًا يُسخّر موقعه لمساعدة كل من يحتاج، لا يردُّ سائلًا، ولا يبخل بمعلومةٍ أو توجيه. كان شعاره في الحياة أن الخير يُزرع بالكلمة الطيبة، والابتسامة الصادقة، واليد الممدودة لكل من يحتاج.
كان حضوره يُشع طاقةً إيجابية، وكان من أولئك الذين يُشعرونك بأن الدنيا لا تزال بخير، وأن هناك من يعمل في صمتٍ ليكون سندًا للآخرين دون انتظار مقابل.
جوري الصغيرة… حبٌّ مُدلّل وحكايةُ جدٍّ عطوف
مرت الأيام، وتشابكت مسارات الحياة، فإذا بحفيدته الصغيرة جوري تُصبح إحدى طالباتي في المدرسة التي أعمل بها. وكم كان مشهد الأستاذ غازي معها يفيض حبًّا ودفئًا! كان يحملها بين ذراعيه كما لو أنه يحتضن العالم بأسره، يُدلّلها وكأنها زهرةٌ نبتت في قلبه، يُحيطها بحنانٍ لا حدّ له، كأنها أغنيةٌ تُعزف على أوتار قلبه كل صباح.
كنت أراه يأتي ليطمئن عليها، عينيه تُشعان حبًّا، وملامحه تحكي قصص الجدّ الذي يرى في حفيدته امتدادًا لحياته، وكان هذا المشهد يُجسّد أن أعظم النعم التي قد ينالها الإنسان هي أن يرى ثمرة عمره تتفتح أمامه كالورود في ربيع العمر.
التقاعد… بدايةٌ جديدة لا نهاية
وكما هي سُنّة الحياة، جاءت لحظة التقاعد، فغادر الأستاذ غازي سمور موقعه في البلدية بعد سنواتٍ من العطاء، لكنه لم يغادر ميدان الحياة. بعض الأشخاص عندما يتقاعدون يعتبرونها نهاية الطريق، لكن الأستاذ غازي كان من أولئك الذين يرون في كل مرحلة بدايةً جديدةً وتجربةً مختلفة.
لم يُرِد أن يسمح للفراغ أن يتسلّل إلى أيامه، فقرر أن يشتري سيارةً ويعمل عليها، ليثبت أن العمل ليس مجرد وسيلةٍ لكسب الرزق، بل هو أسلوب حياة، وطريقةٌ للحفاظ على العطاء والحركة والنشاط.
التحق بمكتب تكسي الكرمل، الذي لطالما كان عنوانًا للأخلاق الراقية والسلوك الحسن، وكان بحضوره وإيجابيته يُضيف إلى هذا المكان لمسةً خاصة، فهو لم يكن سائقًا فحسب، بل كان إنسانًا يحمل على كتفيه سنواتٍ من الخبرة، ووجهًا بشوشًا يُضيء الطريق لكل من يركب معه.
القيادة فنٌّ وذوق وأخلاق
حين نقول إن القيادة فنٌّ وذوق وأخلاق، فإننا نقصد أمثال الأستاذ غازي سمور، فهو لم يكن مجرد سائق سيارة، بل كان سائقًا يُجيد قيادة الكلمات الطيبة، ويقود الركّاب نحو وجهاتهم بروحٍ جميلة تُحوّل الرحلة إلى لقاءٍ مليءٍ بالتفاؤل.
في كل مرةٍ كنت أستقل سيارته، كان لا يتوانى عن تشجيعي، بنبرةٍ مليئة بالفخر كان يقول لي:
“ما شاء الله عليكِ، كتاباتك جميلة يا دكتورة، وأنا أتابعك وأشجعك دائمًا.”
كان كلماته كالنسيم العليل، كأنها نسغٌ يسري في جذور الشجرة ليمنحها حياةً أقوى، وكأنها شعاع شمسٍ يتسلّل ليُبدد عتمة الإرهاق والتعب.
شكرًا لرجلٍ كان مثالًا للإنسانية
الأستاذ غازي سمور، أنت نموذجٌ للإنسان الذي لا يُعرّف بعمله فقط، بل بروحه الطيبة، وأخلاقه الرفيعة، وتأثيره الإيجابي في كل من حوله.
شكرًا لأنك كنت مثالًا للموظف الذي لا يُغلق بابه أمام الناس، وللجدّ الذي يُغرق حفيدته بالحب، وللرجل الذي لم يجعل التقاعد حاجزًا بينه وبين العطاء، وللسائق الذي لا يُقلّ الركّاب فحسب، بل ينقل معهم طاقةً إيجابية وكلماتٍ محفزة تُنير القلوب.
شكرًا لتعاملك الراقي، وشكرًا لأثرك الطيّب، فهناك أناسٌ يمرّون في حياتنا مرور العابرين، وهناك من يتركون أثرًا جميلًا لا يُمحى… وأنت كنت من هؤلاء.