11:51 مساءً / 25 مارس، 2025
آخر الاخبار

امرأة من رفح ، وجع يمشي على الأرض ، بقلم : بديعة النعيمي

امرأة من رفح.. وجع يمشي على الأرض ، بقلم : بديعة النعيمي

لم تكن هذه المرة هي الأولى التي يُجبر فيها الشعب الفلسطيني على ترك قطع من قلوبهم تحت الأنقاض، أو في الأزقة، أو أمام حائط بعد تنفيذ إعدام جماعي. ولن تكون الأخيرة إلا حين يشاء الله لهذا أن ينتهي.


هذا المشهد لم يتوقف منذ ١٩٤٨ عن التكرار. تغيرت الأسماء والأشكال ولكن بقيت المأساة هي ذات المأساة. فمن دير ياسين إلى الدوايمة فصبرا وشاتيلا إلى غزة واليوم رفح.


وكل مدينة لا زالت تحمل ندبة من الماضي ،وكل جيل يأتي يحمل جرحا جديدا، يضاف إلى قائمة الجراح القديمة التي لم تشف ولا زالت تنزف بشدة.

رفح التي كانت في بداية الحرب بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ ملجأ للمستغيثين من شمال غزة ووسطها أصبحت اليوم بعد عودة الحرب مقبرة مفتوحة. المكان الذي كان يوما خطا حدوديا يرمز للعبور إلى الحياة، تحول اليوم إلى فخ، طرق النجاة فيه زلقة للغاية وصعبة العبور حد الموت وحد اللاعودة. والذريعة “ضرورة عسكرية”, لكن النتيجة واحدة..مئات المجازر بحق المدنيين.

ففي الوقت الذي تُعقد الاجتماعات والقمم الفاشلة وتُلقى الخطب الرنانة الجوفاء وتُرفع التقارير الفخرية المتواطئة، تُدفن أجساد الشهداء بلا أكفان ولا دموع، لأن الوقت ليس وقت دموع ولا وقت إلقاء النظرة الأخيرة على وجه حبيب شهيد.

اليوم في رفح لم تعد هناك قيمة للمؤتمرات الدولية، ولا أحد يعير اهتماما للمظاهرات ولا الوقفات الاحتجاجية، لأن الأهم أن تجري حافي القدمين حتى لو لم تعرف أين هي وجهتك، هربا من قنبلة مدفع أو صاروخ يُلقى من الجو إلى أي مكان حتى لو كان حفرة، والمأساة أن تكتشف وأنت في الحفرة أنك تركت قطعة منك ممدة على الأرض بعد أن فارقتها الروح. تركتها لأن الرصاص الذي قتلها مصوب نحوك لو فكرت بدفنها أو حملها.

نعم هذا ما جسده مشهد امرأة من رفح بتاريخ ٢٣/آذار/٢٠٢٥، نجت بنفسها من الموت حيث قالت وهي تنتحب ابني لقيناه عند البركسات، مطخوخ في بطنه واستشهد.

هذه المرأة ليست مجرد قصة تُروى، بل هي وجع يمشي على الأرض، وصدى لألم لا يوصف. أن تترك أم ابنها ممدا خلفها على الأرض دون أن تتمكن من دفنه أو حمله، لهو الجرح النازف الذي لا يلتئم في روحها، وخاصة عندما حالت الدبابات بينهما فسحبتها قدماها قسرا للابتعاد، فالموت لا يعطي فرصا أخرى.

ولا بد أن قلبها احترق وهي تبتعد وربما ركضت ورائحة شواط الاحتراق تعبق في روحها. ولا بد أيضا أن مشاعرها انقسمت بين الأم التي تريد أن تحتضن ابنها الشهيد وبين الإنسانة التي أُجبرت على البقاء على قيد الحياة حتى تسرد قصة وجعها.

تشعر بالذنب وهي تقول:
يا حبيبي يبني تركتك لحالك.
رغم أن لا ذنب لها. ولنا أن نتخيل هذه الأم التي ربما لو استطاعت النوم، فإنها ستحلم بابنها كل ليلة ترجع حيث تركته، ترفعه، تهدهده، تخبره بأن القصف قد انتهى وأن عليه أن يستيقظ. غير أنها تصحو على الواقع، وأنها هي هنا وهو لا زال ممدا هناك، وبينهما جدار من القهر والدمار.

حالة هذه المرأة ليست فردية. بل انعكاس لمأساة أكبر، إنها مأساة ضمير عالم فقد إحساسه. فرفح بشكل خاص وغزة بشكل عام لم تعد مدينة تُقصف ويرتقي فيها الشهداء بالجملة، إنما غدت اختبار لإنسانيتنا، وإلى أي مدى يمكن أن نرى الموت دون أن نحرك ساكنا.

والحرب لا بد لها يوما أن تنتهي وربما يعاد إعمار غزة، ولكن ماذا عن النفوس التي انكسرت؟ وماذا عن الأطفال الذين سيكبرون ولم يعرفوا غير الخوف والجوع؟ وماذا عن الأمهات اللواتي فقدن أولادهن وهم جوعى؟

ماذا ستكون الإجابة لجيل سيأتي لاحقا ويطرح سؤال * كيف يسمح العالم بحدوث هذا ؟؟.

  • – بديعة النعيمي – كاتبة وروائية وباحثة

شاهد أيضاً

القيادي في المبادرة الوطنية المهندس غسان جابر يرثي المناضل محمد الحوراني

شفا – رثى القيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية المهندس غسان جابر المناضل محمد الحوراني …