
حَوْكَمة المؤسسة الفلسطينية: “بين الواقِعٌ والتَسْوِيف” ، بقلم : د. علاء رشيد الديك
لربما نحتاج أن نعرج قليلاً على مفهوم وماهية الحَوْكَمة والتَسْوِيف قبل الدخول في الأساس ليكون واضحاً للقارئ المعنى الحقيقي للكلمات وأهمية إرتباطها بهذه المقالة.
فالحوكمة تعني تدعيم مراقبة نشاط المؤسسة ومتابعة مستوى أداء القائمين عليها، وبالتالي فهي النشاط الذي تقوم به مؤسسات الرقابة والمساءلة بهدف التحقق من الأداء. وعليه، فإن الحوكمة تعني الإدارة الرشيدة، والسياسات المتماسكة، والتوجيه، والعمليات الفاعلة، واتخاذ القرارات بحزم ومسؤولية. ولعل أهم ما يميز الحوكمة هو مجموعة من المبادئ الأساسية التي تعكس فاعلية أي نظام سياسي، وأهمها المشاركة في صناعة القرار وبما يتفق مع سيادة القانون، الشفافية والإستجابة السريعة، والعدالة والشمولية، وأخيراً الفاعلية والكفاءة في الأداء، وهذا سينعكس على تحسين وإستدامة عمل المؤسسة وفاعليتها لخدمة المواطنين. في المقابل، فالتسويف يعني تأجيل الأعمال والمهام إلى وقت لاحق، ويترتب على ذلك عدم إنجاز المهام وعدم إتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المحدد، وعندئذ غياب العدالة اجتماعية والحق في المساواة وفق الدستور.
وتأتي هذه المقالة في في الوقت الذي يضحي به الشعب الفلسطيني بكل قواه وأطيافه بهدف تحقيق حلمه في الحرية والعودة وتقرير المصير، وبناء نظام سياسي ديمقراطي وفق القانون الأساسي ووثيقة إعلان الإستقلال كعنوان لمؤسسات الدولة الفلسطينية.
وما دفعني لكتابة هذه المقالة هو أهمية هذا الموضوع بالنسبة لنا كفلسطينيين، وخاصة أن الظروف التي نمر بها صعبة للغاية، وتتطلب منا تحمل المسؤولية الوطنية بهدف الحفاظ على الإنجازات التي تحققت والبناء عليها لحاضر ومستقبل أفضل للمواطن الفلسطيني ومؤسساته الوطنية. وعليه، فإن فاعلية الإدراة الرشيدة “الحوكمة” في المؤسسة الفلسطينية أمر ضروري ومطلبي، وخاصة أن الفلسطينيين أول من طالبوا بتحقيق وتجسيد مبدأ الحوكمة في المؤسسات الدولية لنصرة القضية الفلسطينية العادلة وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وفق القانون الدولي والإنساني. وبالتالي فإن المسؤولية الوطنية تحتم علينا البدء بأنفسنا أولاً في تعزيز وتجسيد الحوكمة والحكم الرشيد في المؤسسة الفلسطينية بشكل “حازم وثابت”.
والجدير بالذكر أن تحقيق فاعلية الحوكمة العالمية كمبدأ للحفاظ على العدالة والإنصاف الدوليين في الحقوق والواجبات تجاه الشعوب المظلومة، وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني، يتطلب من الفلسطينيين الحفاظ على فاعلية مبدأ الحوكمة في فلسطين بحزم وثبات، وهذا سيساعد في تعزيز مصداقية الفلسطينيين أمام العالم الحر من خلال بناء وتفعيل المؤسسات الديمقراطية ذات الحكم الرشيد. فالحوكمة في فلسطين عنوان العدالة والإنصاف الدوليين بسبب نداء فلسطين النازف والطواق للحرية والعدالة والإنصاف وحق تقرير المصير كغيره من الشعوب.
ومن منطلق الحرص على الموضوعية في الكتابة والنقد، فالمؤسسة الفلسطينية قد قطعت شوطاً جيداً في العمل الوطني والبناء المؤسساتي على المستوى المحلي والدولي، ومازال الكل الفلسطيني يضحي ويتألم من أجل فلسطين، ونحن كفلسطينيين أصبح لدينا مؤسسة وطنية معترف بها من الأصدقاء والأشقاء والمناصرين والداعمين في كل العالم، وهذا جيد. وبالتالي فإن أداء تلك المؤسسة والقائمين عليها يجب أن يكون على قدر من المسؤولية الحازمة والفاعلة لحمل الأمانة والوقوف عند مسؤولياتهم تجاه تلك المواقف، وهذا يتم من خلال الحفاظ على المواطنين وإحترام حقوقهم وكرامتهم وتضحياتهم في سبيل التحرر والبناء على حد سواء.
في المقابل، وكما قيل: لا تستهينوا بصغائر الأمور، فالقشة قصمت ظهر البعير، وكرة الثلج تبدأ صغيرة ومع تدحرجها تزداد حجماً وقوة حتى تصبح عائقاً صلباً لا ينكسر. وبالإطلاع على قضية الشهيدين الشقيقين عمار وضياء رشيد الديك، رحمهما الله، الذين رحلوا عنا بتاريخ 14 يونيو 2020 أثناء تأديتهم واجبهم الإجتماعي والأخلاقي تجاه عائلتهم، عند القيام بتنظيف بئر ماء داخل منزلهما لشرب ماء نقي، حيث إنقطع الأكسجين عنهما ولم يتمكن جهاز الدفاع المدني الفلسطيني في محافظة سلفيت من إنقاذهما، فرحلوا شهداء في عليين. وعليه، أصبحت قضيتهم قضية رأي عام بسبب التضامن والتعاطف الشعبي مع الحادثة وما نتج عنها، وما رافقها من ظلم وقع على الضحية وذويهم. فلقد تم تحميل الضحية مسؤولية ما حدث بهدف التغطية على الإهمال والتقصير في الإنقاذ من قبل طاقم الدفاع المدني، والإمعان كذلك بالإساءة لهم ولذويهم من قبل محافظ سلفيت السابق وبعض الجهات الرسمية في محافظة سلفيت بهدف خلط الأوراق وتشتيت الرأي العام حول ما جرى. والجدير بالذكر أن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان “ديوان المظالم” في فلسطين قد أصدرت تقرير تقصي حقائق عن الحادثة بتاريخ 22 نوفمبر 2020، جاء فيه أن جهاز الدفاع المدني الفلسطيني يتحمل مسؤولية وفاة الأخوين الديك بسبب التقصير والإهمال في إنقاذهما، وأن على الجهات الرسمية في محافظة سلفيت مراجعة موقفها والتركيز على أسباب الإهمال والتقصير في الإنقاذ الذي أودى بحياتهما، بدلاً من إتهامهما وتحميلهما مسؤولية ما حدث. ومازالت قضية الأخوين الديك تنظر في محكمة بداية رام الله منذ تاريخ 27 مايو 2021 وليومنا هذا، وتؤجل دون الدخول في الأساس.
ولكي أكون أكثر حيادية وموضوعية في الرأي، نستطيع القول أن فاعلية حوكمة المؤسسة الفلسطينية تجاه الإهتمام بقضية الأخوين الديك واقع من “التسويف والمماطلة”. ومن الممكن أن تكون تلك الحوكمة في قضايا أخرى مشابهة “فعالة وجيدة”، ولكن في قضية الأخوين الديك فهي غير فعالة وغير جيدة على الإطلاق. فالبعض يرى أن القضية صغيرة، وأن لا داعي للحديث عنها أو الإهتمام بها كثيراً، وخاصة أن الجهات الرسمية العليا في رام الله العاصمة بدون إستثناء، قد أعتبرت أن وجهة نظر الجهات الرسمية في سلفيت هي الصحيحة، وأنه لا داعي للإهتمام أو النظر لرأي أخر مغاير لموقف الجهات الرسمية في سلفيت تجاه القضية، وبالتالي إعطائها حجم وإهتمام أكبر. فمثلاً لم يتم الإكتراث والنظر في تقرير تقصي الحقائق الصادر عن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان “ديوان المظالم” في فلسطين، والدعوة لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة وموضوعية لدراسة ننائج ومخرجات هذا التقرير بهدف تعلم دروس وعبر مما حدث لكي لا يتكرر ما حدث في حوادث مستقبلية مشابهة، وأن يتم مساءلة ومحاسبة الأطراف المتأمره على قضية الأخوين الديك، والتخطيط للإساءة لهم ولذويهم أبان الحادثة بهدف التغطية على الإهمال والتقصير الذي أودى بحياتهما من قبل الجهات المكلفة بالإنقاذ.
في المحصلة، فحوكمة المؤسسة الفلسطينية في قضية الأخوين الديك غير فعالة، ونستطيع أن نوصفها بأنها واقع من التسويف وطمس الحقائق. فهي بكل اسف لم تقم بمراقبة نشاط المؤسسة ومتابعة مستوى أداء القائمين عليها في قضية الأخوين الديك وما رافقها من أحداث، وبالتالي غياب فاعلية أدوات الرقابة والمساءلة بهدف التحقق من الأداء لدى الأطراف العاملة تجاه ما حدث حسب الأصول. فلقد تم تسويف قضية الأخوين الديك من خلال تأجيل الأعمال والمهام المرتبطة بمعرفة الحقيقة والتفاصيل التي رافقتها هرباً من تحمل المسؤولية وتطبيق القانون لأجل غير مسمى، بحيث ترتب على ذلك عدم إتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المحدد وعندئذ غياب العدالة ليومنا هذا.
ومع إقتراب الذكرى السنوية الخامسة لرحيل الشهيدين الشقيقين عمار وضياء رشيد الديك، رحمهما الله، فإن حوكمة المؤسسة الفلسطينية على المحك، وأن أمام هذه الحوكمة تجاه تلك القضية لكي تكون أكثر فاعلية ومصداقية لإحترام كرامة وحقوق المواطنين طريقين، الأول: الإبتعاد عن التسويف والتهميش والإقصاء في قضية الأخوين الديك، وأن يتم تحمل المسؤولية الوطنية والمجتمعية من قبل أصحاب القرار، سواء على مستوى أجهزة ومؤسسات السلطة
الفلسطينية أو قوى وفعاليات منظمة التحرير، والمطالبة بإجراء تحقيق وطني مهني مستقل من جهات الإختصاص، يضم ممثلين عن العائلة والمؤسسات الحقوقية والرقابية ذات العلاقة، ومحاسبة كل المقصرين والمتأمرين ومن يثبت تورطهم حسب الأصول، وتكريم الأخوين الديك كرد إعتبار إحتراماً لمسيرتهم وتاريخهم وإنتمائهم للمؤسسة والوطن، وتقديم الإعتذار الرسمي لذويهم وعائلاتهم على الإساءة وعدم الإهتمام بالحادثة وما رافقها من أحداث. والأمر الأخر: تعزيز وتجسيد حكم المؤسسة الفلسطينية في ظل تطبيق سيادة القانون بحزم على الجميع دون إستثناء، وعدم السماح لأي شخص بصرف النظر عن موقعه، بالتحكم والسيطرة على المؤسسة، والإمعان في الإساءة لكرامة وسمعة المواطنين وتجاهل حقوقهم التي كفلها القانون والدستور الفلسطيني والمواثيق والأعراف الدولية والإنسانية.
أنقذوا حوكمة المؤسسة الفلسطينية من التسويف قبل فوات الأوان، فمازال الشعب الفلسطيني ينزف طواقاً للحرية والعدالة والإنصاف، “فلا للظلم، ونعم لقول الحق وتحقيق العدل والإنصاف”، إنها صرخة كل حر ومناضل وحريص على الوطن والمؤسسة والمواطن، فهل من مستجيب يا أصحاب السيادة والمعالي؟
- – د. علاء رشيد الديك، شقيق الشهيدين الشقيقين عمار وضياء رشيد الديك رحمهما الله.
25 مارس 2025