6:24 مساءً / 25 مارس، 2025
آخر الاخبار

أحياء يرزقون ، الصحفي محمد منصور ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

أحياء يرزقون ، الصحفي محمد منصور ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

أحياء يرزقون ، الصحفي محمد منصور ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

عندما يترجل الفرسان عن صهوات حروفهم، وتُغمس أقلامهم بدمائهم، يظل الحبر شاهداً على الحقيقة، صامداً في وجه الطغيان، شاهقاً كسعفات نخيل لا تنحني للرياح. هكذا رحل الشهيد الصحفي محمد منصور، مراسل قناة (فلسطين اليوم)، شهيداً للكلمة والصورة، شهيداً للحقيقة التي أراد الاحتلال طمسها بقذائف الغدر، لكنه لم يدرك أن الحروف لا تموت، وأن الصوت الصادق لا يُخنق، بل يصبح صدى يتردد في الأرجاء، يملأ الأفق نوراً، ويزرع في العيون دمعة لا تجف.

في صباحٍ مثقلٍ بالدم، مشحونٍ بالوجع، سقط محمد شهيداً تحت أنقاض منزل كان يأوي إليه مع زوجته، التي أصيبت في الغارة ذاتها. لم يكن منزله، بل كان ملجأً لنزوحه، ظناً منه أن جدران الإسمنت قد تحميه من شظايا الموت، لكنه لم يعلم أن الاحتلال لا يفرّق بين من يحمل بندقية ومن يحمل كاميرا، بين من يروي الرواية ومن يطمسها. في عتمة الليل، وبين أنين الجرحى، سُجِّل اسمه في سجلّ الشهداء، ليكون الرقم الجديد في قائمة 207 صحفيين ارتقوا منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.

لكن الأرقام، مهما ارتفعت، لا تختصر الحكاية، ولا تعكس وجع القلب حين رفع والده المايكرفون الملطّخ بدماء ابنه، وهو يتمتم بصوت متهدّج، يعتصره الفقد والخذلان: “قوم يا محمد، احكي.. خلّي صوتك يعلو فوق الدمار، خلّي العالم يسمع! لا تمت، لا تسكت، فأنت الصحفي الذي ما خاف يوماً، أنت الصوت الذي لا يُقتل، أنت الحرف الذي لا يُمحى!”. ثم ينكفئ الأب على جسد ابنه، يحاول أن يوقظه من نومه الأبدي، يهزه برفق، كأن الحياة قد تتسلل إليه من بين أنامل الأب المرتعشة، يبكي بحرقة، يصرخ بحرقة، يتحسر: “ليتني كنت الصحفي يا بني، ليتني كنت أنا من رحل، وأكملتُ من بعدك رسالة الحق في وجه سلطان جائر!”.

يا وجع القلب حين يصبح المايكرفون شاهداً على الجريمة، ودرع الصحافة الأزرق ملطخاً بالدم، والكاميرا مشطورةً إلى نصفين كأنها لم تحتمل رؤية الحقيقة تُذبح أمامها! يا وجع القلب حين يُدفن الصحفي وهو الذي كان ينقل نبض الحياة، حين يُسكت صوت الحق برصاصة غادرة، وحين تظل العدسات شاهدة على مشاهد المجازر، لكن بلا مصور.

أين القانون الدولي؟ أين اتفاقيات حماية الصحفيين؟ أين العالم الذي لطالما تغنّى بحرية الإعلام وحقوق الإنسان؟ أليس محمد منصور إنساناً؟ أليس كل أولئك الشهداء الصحفيين بشراً؟ أم أن القوانين وُضعت لحماية الأقوياء فقط، وتُرفع حين يكون الدم فلسطينياً؟

إننا أمام جريمة تُرتكب بدمٍ بارد، أمام قتلٍ ممنهجٍ لا يفرّق بين طفل وصحفي، بين أمّ وكاتب، بين شيخ ومصور. الاحتلال يقتل الحروف كما يقتل الأجساد، يحاول طمس الرواية كما يهدم البيوت، لكنّه لا يدرك أن الصحفيين يُبعثون من جديد مع كل تقريرٍ، مع كل صورةٍ، مع كل شهادةٍ تُكتب بالدم قبل الحبر.

محمد منصور لم يمت، بل صار جزءاً من ذاكرة هذا الوطن، من صفحات الحقيقة التي لا يطويها النسيان،

شاهد أيضاً

صدور الكتاب الثامن بعنوان " مشكلتي مع باربي " للمفكر الاسلامي محمد نبيل كبها

صدور الكتاب الثامن بعنوان ” مشكلتي مع باربي ” للمفكر الاسلامي محمد نبيل كبها

شفا – كتاب: “مشكلتي مع باربي” وهو مدخل في الجنولوجيا، والذي يتحدث فيه المفكر الاسلامي …