
عندما يصبح السلاح قاتلًا والحماية فخًا ، بقلم د. تهاني رفعت بشارات
استوقفتني الصورة على قناة ناشونال جيوغرافيك، فجلست أتأملها طويلًا، وكأنها تحاول أن تهمس لي بحكمة لم أنتبه لها من قبل. صورة لكبشٍ ملقى على الأرض، وعيناه الزجاجيتان تحدقان في الفراغ، بينما قرونه التي كانت مصدر فخره وقوته قد تحولت إلى قيدٍ قاتل، طوقت رأسه حتى اخترقت جمجمته وقتلته بصمتٍ قاسٍ. أي مفارقةٍ مؤلمة تلك التي تجسدها هذه الصورة؟ كيف يتحول ما نظنه درعًا يحمينا إلى سلاحٍ يغدر بنا؟ وكيف يمكن للأمان الذي نعتمد عليه أن يصبح في لحظةٍ شركًا يطوق أعناقنا حتى يختنق بنا؟
لقد عاش هذا الكبش حياته معتقدًا أن قرونه تاج مجده، سلاحه الذي يدفع به الأعداء، حصنه الذي يحتمي خلفه، فلم يشعر بها وهي تكبر يومًا بعد يوم، تلتف ببطءٍ حول رأسه، تدور كالأفعى التي تنساب حول فريستها قبل أن تجهز عليها. لم يشعر بها وهي تتحول من زينةٍ إلى قيد، ومن حمايةٍ إلى موتٍ محتوم. لم يدرك أن ما كان يعتقده قوته العظمى، هو ذاته ما سيصبح نهايته المأساوية.
هكذا نحن في الحياة، نمنح الثقة لأشخاصٍ نظن أنهم سياج الأمان، نفتح لهم أبواب أرواحنا، نجعلهم جزءًا من تفاصيلنا، حتى يصبحوا كالأطراف التي لا يمكن الاستغناء عنها. نرويهم بماء قلوبنا، نمنحهم أكثر مما يجب، ونضع في أيديهم مفاتيح أسرارنا، معتقدين أنهم الملاذ، وأنهم من سيصدّون عنا السهام، لكننا ننسى أن البشر متغيرون، وأن القلوب تقلبها الأيام كما يقلب الريح صفحة الرمل في الصحراء. وحين تأتي الطعنة، لا تأتي من غريب، بل ممن كنا نراهم جزءًا منا، ممن كان صوتهم يملأ أركان حياتنا، ممن ظننا أن وجودهم طوق نجاة، فإذا بهم يغرقوننا بأيديهم، كمن يدفع من يحبه إلى الهاوية دون أن يطرف له جفن.
ما أصعب أن تأتي الخيانة من قلبٍ احتضنته كجزء منك، وما أقسى أن يكون الغدر ممن كنت تظنه سيفك وسندك. إن الطعنة من غريب تؤلم، لكنها لا تفاجئ، أما الطعنة من قريب، فإنها تمزق الروح قبل الجسد، وتترك في القلب ندبةً لا تبرأ، لأننا لم نحسب لها حسابًا، لأننا لم نكن نتوقع أن اليد التي أمسكت بيدنا يومًا بحنان، ستتحول إلى يدٍ تدفعنا نحو الهاوية.
ليس كل ما يبدو حمايةً هو أمان، فبعض الحصون ليست سوى سجون، وبعض الأسوار التي نبنيها حول أرواحنا للاحتماء، قد تتحول إلى جدرانٍ خانقة، تمنع عنا الهواء والنور. وليس كل من نمنحه الثقة يستحقها، فكثيرون هم الذين يقتربون منا لا لأنهم يحبوننا، بل لأنهم وجدوا في قربهم فرصةً للنمو، وحين يكبرون، يطعنون من منحهم الحياة.
تعلم أن لا تمنح الأمان المطلق لأحد، فالله وحده هو الملجأ الذي لا يغدر، وهو الحصن الذي لا ينهار، وهو الأمان الذي لا يخون. لا تثق ثقةً عمياء، فالدنيا متغيرة، والقلوب تتقلب، ومن كنت تظنه درعك قد يكون هو السهم الذي يخترق صدرك في النهاية. لا تجعل قرونك تكبر حتى تخنقك، ولا تترك الأمان الزائف يخدعك، فالدرس قاسٍ، والثمن قد يكون حياتك.