
الصيام ، عبادة القلوب وسُموّ الأرواح ، بقلم : الأستاذ جندل صلاح
إذا كان لكلّ طاعة نورٌ يضيء القلوب، فإنّ الصيام نورٌ يتّقد في الروح، فيطهرها من أدران الذنوب، ويزكّيها في مدارج العبودية الخالصة لله. فليس الصيامُ مجرّدَ إمساكٍ عن الطعام والشراب، وإنّما هو مدرسةُ تزكيةٍ يُربّي فيها المرءُ نفسه على الصبر، والتقوى، ومراقبة الله في السرّ والعلن. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، فجعل الغاية العظمى من الصيام هي تحقيق التقوى، تلك المرتبة التي يسمو بها العبد في مدارج القرب من الله.
فضائل الصيام في الدنيا
إنّ الصيام مدرسةٌ عظيمةٌ، تبني في الإنسان أرقى القيم، فهو عبادةٌ خالصةٌ بين العبد وربّه، لا يطّلع على حقيقتها إلا الله، ولذلك جاء في الحديث القدسيّ: “كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” [رواه البخاري ومسلم].
ومن أعظم فضائل الصيام:
تحقيق التقوى وضبط النفس
حين يصوم العبد، فإنه يكفّ عن شهواته المباحة، فيتعلم كيف يمتنع عن المحرمات، فيكون الصيام بمثابة درعٍ يحميه من نزغات الشيطان، كما قال النبي ﷺ: “الصيام جُنّة” [رواه البخاري ومسلم]، أي وقاية من المعاصي وحاجزٌ من عذاب الله.
إجابة الدعاء
الصيام بابٌ من أبواب إجابة الدعوات، فهو يقترن بتجرد القلب لله، ولذا قال النبي ﷺ: “ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتهم: الصَّائمُ حتى يُفطِر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم” [رواه الترمذي]. وما أجمل أن يُرفع الدعاء إلى السماء حين يكون القلب طاهراً، والجسد صائماً، واللسان رطباً بذكر الله!
الجود والكرم
كان النبي ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فقد كان يُنفق بلا حساب، ويُطعم الجياع، ويمدّ يد العون للمحتاجين، فالصيام يُعلّم العبد أن يكون رحيماً بإخوانه، وأن يشعر بجوع الفقراء، فيتسابق في العطاء.
باب الريّان للصائمين
وهل هناك جزاءٌ أعظم من أن يخصّ الله الصائمين ببابٍ يدخلون منه الجنة؟ فقد قال النبي ﷺ: “إنَّ في الجنةِ بابًا يُقالُ له الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ منه الصائمونَ يومَ القيامةِ، لا يَدْخُلُ منه أحدٌ غيرُهم، فإذا دخلوا أُغلقَ فلم يَدْخُلْ منه أحدٌ” [رواه البخاري ومسلم].
التعود على الصبر وقوة الإرادة
الصيام يعلّم العبد كيف يتحكم في نفسه، ويصبر عن رغباته، وكيف يقهر الشهوات، فيكون الصيام أعظم وسيلةٍ لتهذيب الروح وتقوية العزيمة.
فضائل الصيام في الآخرة
ما أعظم الصيام حين يمتدّ أثره إلى الدار الآخرة، فيكون سبباً للنجاة، ووسيلةً لنيل أعظم الدرجات!
الشفاعة يوم القيامة
الصيام رفيقُ الصائم في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، قال النبي ﷺ: “الصيامُ والقرآنُ يَشْفَعَانِ للعبدِ، يقولُ الصيامُ: ربِّ إنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ والشَّرَابَ بِالنَّهَارِ؛ فَشَفِّعْنِي فيهِ، ويقولُ القُرْآن: ربِّ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِالليلِ؛ فَشَفِّعْنِي فيهِ، فيُشفَّعانِ” [رواه أحمد].
البعد عن النار سبعين سنة
يكفي الصائم فضلاً أنه يُبعده الله عن النار بمسافةٍ عظيمة، قال النبي ﷺ: “مَن صامَ يومًا في سبيلِ اللَّهِ، بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا” [رواه البخاري ومسلم].
فرحتان للصائم
ما أعظم فرحة الصائم حين يُفطر بعد جوعٍ وعطش، وما أعظمها حين يلقى الله، فيجد أجره محفوظاً، قال النبي ﷺ: “لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ” [رواه البخاري ومسلم].
الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام
ليس الصيامُ أن يمتنع العبد عن الأكل والشرب فقط، بل هو تهذيبٌ للأخلاق، وتطهيرٌ للقلب من الغلّ والحقد، وامتناعٌ عن الغيبة والنميمة وسوء الخُلق. قال النبي ﷺ: “مَن لم يدع قولَ الزُّورِ والعملَ به، فليس للهِ حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه” [رواه البخاري].
رسالة الصيام: صوموا، واصبروا، واصفحوا
يوم القيامة يُنادى: “أين الذين أجرهم على الله؟” فيتقدّم الصابرون، والصائمون، والعافون عن الناس، فيُجزَون بغير حساب. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
فيا أيها الصائم، ليكن صومك صبراً على طاعة الله، وصفحاً عن الناس، واحرص على أن يكون يومك مليئاً بالذكر والدعاء، واحذر أن يكون صيامك جوعاً بلا فائدة، بل ليكن غذاءً لروحك، ونوراً لقلبك، وزاداً لآخرتك.
في شهر الصيام، شهر الرحمة والغفران، فلنغتنمه في التقرب إلى الله، ولنُحسن صيامنا وقيامنا، حتى نكون من الذين يُنادى عليهم: “أين الذين أجرهم على الله؟” فيتقدّم الصائمون، فيفوزون بالرضوان والجنان.
اللهم اجعل صيامنا مقبولًا، وذنبنا مغفورًا، وعبادتنا مبرورة، وارزقنا الجنة بغير حساب. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد ﷺ.