5:45 مساءً / 23 مارس، 2025
آخر الاخبار

أبي: إرث لا ينتهي، وأثر يظل أبديا ، بقلم : هدى زوين

أبي: إرث لا ينتهي، وأثر يظل أبديا ، بقلم : هدى زوين

أبي: إرث لا ينتهي، وأثر يظل أبديا ، بقلم : هدى زوين

رحل أبي عن هذه الدنيا كما رحل الكثيرون من قبل، لكن ما تركه خلفه ليس مجرد ذكريات عابرة أو لحظات عاطفية. لم يكن مجرد شخص، بل كان موسوعة حية من المعرفة والفكر العميق. ترك وراءه إرثاً يملأ فراغ الزمن، ليس في الكتب أو المقالات التي كتبها فحسب، بل في أفكارٍ، رؤى، وتوجهات أثرت في كل لحظة من حياتنا. ورغم غيابه الجسدي، فإن بصمته الفكرية لا تزال حاضرة، وتظل كلماتُه تُعلّمنا كلما نظرنا في أعيننا أو في الحياة من حولنا.

أبي لم يكن معلماً بالمعنى المعتاد. كان فيلسوفاً، مفكراً، ومعمارياً في بناء العقول. كان يعيد صياغة أسس المعرفة بطريقة لا تنحصر في حدود العلم المدرسي أو الأكاديمي. بل كان يرى أن المعرفة هي مفتاح لكل شيء: مفتاح لفهم الواقع، مفتاح لتغيير الظروف، ومفتاح لنكون أفضل مما نحن عليه. كان دائماً يقول إن “المعرفة لا تملك حدوداً إلا حدودك أنت”. ولم يكن يتحدث عن العلم المتخصص فقط، بل كان يعنى بكل جانب من جوانب الحياة، يدعونا لفهم الإنسان، للطبيعة، للأفكار العميقة التي تقف خلف الأحداث الصغيرة التي تطرأ على حياتنا.

في كل حديث كان يمرر لنا فكرة جديدة، وفي كل محادثة، كان يفتح أمامنا أبوابًا جديدة للبحث. لم يكن يكتفي بتلقيننا معلومات، بل كان يزرع فينا ثقافة البحث المستمر عن الحقيقة. كان يقول لنا: “العقل هو أغنى ما تملكه، لا تتركه قابعاً في الزمان والمكان”. كان يشجعنا على تساؤلات لا تنتهي، ويرشدنا إلى أن الأسئلة الصحيحة أكثر أهمية من الإجابات السطحية.

لكن ما يجعل إرث أبي فريداً هو عمقه. كان كل شيء يراه ويتعلمه لا ينفصل عن بعضه البعض. لم يكن العلم مجرد تجميع حقائق، بل كان يتعلق بربط تلك الحقائق مع بعضها البعض، ورؤية الصورة الأكبر التي قد يراها الآخرون مشوشة. كان يرى في كل لحظة من لحظات الحياة درساً جديداً: كيف يمكن للمشاعر أن تقودنا إلى الحكمة، وكيف يمكن للصمت أن يحمل بين طياته أعظم الأسرار، وكيف يمكن للإنسان أن يكون قوياً ليس بسبب قوته الجسدية، بل بسبب اتساع عقله وعمق فكره.

ورغم أن المعرفة التي تركها لنا لا يمكن حصرها، فإن أبرز ما تركه أبي هو التقدير العميق للإنسان ذاته. علمنا كيف نبحث في أنفسنا أولاً، كيف نغوص في أعماقنا ونكتشف حقيقتنا. كان يعلّمنا أن أقوى الأدوات التي يمكن أن يمتلكها الإنسان هي القدرة على التفكر والتأمل في ذاته، وأن المعرفة تبدأ من الداخل. لهذا، ترك لنا إرثاً ليس مجرد مجموعة من الحقائق أو الأفكار الجافة، بل منظومة حياة تعلمنا من خلالها كيف نعيش بأعمق الأبعاد، وكيف نكون أكثر تسامحاً مع أنفسنا ومع الآخرين.

أبي لم يكن يسعى لتركنا فقط محاطين بالمعلومات، بل كان يود أن يتركنا مسلحين بالحكمة. كانت نصائحه تتمحور حول فهم الحياة بعمق، والتعامل مع التحديات بتبصر. كلما واجهنا صعوبات، كان يقول لنا: “التحديات هي دروس في الزي، والذكاء في كيفية تعلم الدرس منها”. هذه ليست كلمات عابرة، بل هي فلسفة حياة نابعة من فكر عميق، بُني على سنوات من التجربة والعلم.

اليوم، وقد أصبحنا نعيش في عالمٍ سريع ومتغير، أجد نفسي أبحث عن كلمات أبي في كل زاوية، أستلهمها في لحظات الأزمات، وأستذكرها حين يطلب مني الآخرون نصيحة. وما تركه فينا ليس مجرد علم بحد ذاته، بل هو طريقتنا في الحياة. كان يزرع فينا العزيمة، ويعلمنا أن العلم ليس مجرد سعي وراء الحقائق، بل هو سعي لتطوير أنفسنا، لنسير في طريق الإنسانية بروحٍ نقية وعقلٍ مستنير.

ورغم غيابك عن جسدك، ما زلت أراك في كل فكرة أستحضرها، في كل درس أتعلم منه، في كل حكمة ألجأ إليها. تركت لنا إرثاً ليس مجرد ذخيرة عقلية، بل هو كنز من الحكمة الحية التي نستطيع أن نعيش بها، ننتقل بها إلى آفاق أوسع وأكثر عمقاً. فأنت لم تترك لنا فقط فكرًا منسوجًا من المعرفة، بل تركت لنا معالم طريقٍ جديدة، مليئة بالتحدي، والتعلم، والنمو، التي ستظل تضيء لنا الطريق حتى نهاية العمر.

شاهد أيضاً

تشييع المناضل الدبلوماسي الفلسطيني ماهر مشيعل في بيروت

تشييع المناضل الدبلوماسي الفلسطيني ماهر مشيعل في بيروت

شفا – شيع أبناء شعبنا الفلسطيني، اليوم الأحد، المستشار الأول في سفارة دولة فلسطين في …