
الأستاذة هنا القاضي “أم نور” الأخت التي وهبتني الأقدار، والصديقة التي ساندتني رغم المسافات ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في رحلة الحياة الطويلة، قد نلتقي بآلاف الوجوه، ونتبادل التحايا مع الكثيرين، لكن القليل فقط من هؤلاء يتركون أثرًا لا يمحوه الزمن، أثرًا يشبه النقش على حجر الروح، يظل ثابتًا مهما عصفت به الأيام. ومن بين هؤلاء، كانت هناء… أختي التي لم تنجبها أمي، وصديقتي التي منحتني الأقدار إياها كهدية لا تقدر بثمن.
بداية قصتنا كانت في مكانٍ لم يكن ليخطر ببالي أن يكون بابًا لصداقةٍ عميقة وأختٍ مدى العمر. في مشفى رزان لزراعة أطفال الأنابيب، كنا كلتانا نخطو خطواتٍ ثقيلةً محملةً بالأمل والرجاء، ننتظر أن تهبنا الحياة نعمة الأمومة، نتشارك ذات الحلم، ذات الخوف، وذات الدعاء الصامت الذي ينبض في القلوب قبل الألسن. كانت هناء هناك، مثلي تمامًا، تخوض ذات التجربة، تمسك بحبال الأمل بقبضة لا تعرف اليأس.
لكن الأقدار كان لها رأيٌ آخر، لم تكتب لنا تلك الفرحة التي كنا ننتظرها، لكن ما كتبته لنا الحياة كان أعظم… أخوة لم يكن يربطها دم، بل رابطٌ أسمى وأكبر، رابطٌ من صدق المشاعر وصفاء القلوب. لم يكن ذلك اللقاء العابر في المشفى مجرد محطة زمنية عابرة، بل كان بدايةً لرحلةٍ طويلةٍ من الحب، والدعم، والصداقة التي نبتت في أكثر الأماكن وجعًا، فازدهرت رغم كل شيء.
لم تكن هناء مجرد صديقة، بل كانت روحًا تسكنني، أمانًا يسير إلى جانبي، ويدًا تمتد نحوي كلما تعثرت خطواتي. لم تكن فقط تلك المرأة الفلسطينية الصابرة القوية، بل كانت السند الذي أتوكأ عليه حين يخذلني التعب، والوجه الذي أبحث عنه في زحام الأيام حين أحتاج إلى ملجأ من صخب الحياة.
وأذكر كيف كنتُ كلما أتيت إلى نابلس لمتابعة دراستي في الماجستير، كانت هناء أول من يسأل، أول من يهتم، أول من يطمئن. لم يكن سؤالها مجرد كلماتٍ عابرة، بل كان دفئًا حقيقيًا يشبه دفء الأخت حين تقلق على أختها، كان بيتها دومًا مفتوحًا لي، كانت تقول لي بصوتها الحنون: “بيت أختك مفتوحٌ لكِ دائمًا، إن تأخرتِ أو احتجتِ شيئًا، لا تترددي”. لم يكن بيتها فقط هو المفتوح لي، بل كان قلبها، وقتها، محبتها، ودفء اهتمامها.
لم تكن مجرد رفيقة سفرٍ في الطرقات، بل كانت رفيقةً في الحياة، في الأمل، في الفرح، في الحزن، وفي كل تلك التفاصيل الصغيرة التي تجعل الحياة أكثر احتمالًا. كنتُ أفهمها من نظرتها، وكانت تدرك ما أشعر به قبل أن أنطق، كنتُ أرى في عينيها ذلك الصدق الذي لا يُشترى، والمحبة التي لا يلوثها تكلّفٌ أو مصلحة.
هناء… يا رمز المرأة الفلسطينية الصامدة، القوية، التي تُشبه شجرة الزيتون، لا تهزّها الرياح، ولا تكسرها العواصف. يا من كنتِ لي الأخت والصديقة والسند في آنٍ واحد، يا من وهبتني الحياة درسًا في الوفاء، في العطاء، في معنى أن يكون الإنسان أثرًا خالدًا لا تمحوه الأيام.
شكرًا لكِ، لأنكِ علمتني أن الحب الحقيقي لا يُقاس بعدد اللقاءات، بل بصدق الشعور.
شكرًا لكِ، لأنكِ كنتِ وستبقين دائمًا الأخت التي لن تفرقنا الأيام مهما ابتعدت بنا المسافات.
شكرًا لكِ، لأنكِ الأثر الذي سيظل خالدًا في عمري، مهما تبدلت الفصول، ومهما مضت السنوات.