1:59 صباحًا / 21 مارس، 2025
آخر الاخبار

أعذار الفراق ، سرابُ العابرين ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

أعذار الفراق ، سرابُ العابرين ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

أعذار الفراق ، سرابُ العابرين ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

كلُّ أعذارِ الفراقِ كاذبة، تُشبهُ غبارَ الطريقِ حينَ يُثيرهُ المارّونَ ليخفوا آثارَ أقدامِهم، لكنَّ الأرضَ تحفظُ الذاكرةَ، وتعرفُ من خطا عليها طوعًا، ومن حاولَ التملّصَ من دربٍ كانَ لهُ وطنًا. لا أحدَ يفارقُ لأنَّهُ مُجبرٌ، ولا أحدَ يرحلُ لأنَّ القدرَ ساقَهُ بعيدًا، إنما القلوبُ تتّبعُ ما تهوى، ومن أحبَّ البقاءَ تشبّثَ حتى لو عصفتِ الرياحُ، ومن أرادَ الرحيلَ صنعَ لعذرهِ جناحينِ ومضى.

إنَّ الذينَ فارقونا حقًّا همُ الذينَ لم يكنْ لهم خيارٌ في الوداعِ، أولئكَ الذينَ غابوا ولم تُبقِ لهم الحياةُ نافذةً للعودةِ، هم وحدَهم الذينَ نتقبّلُ غيابَهم بقلوبٍ داميةٍ لأننا نعلمُ أنهم لم يختاروا الرحيلَ، لكنَّ الآخرينَ، الذينَ كانوا هنا ثمَّ قرَّروا أن يكونوا هناك، الذينَ استوطنوا أرواحَنا ثمَّ هدموا بيوتهم بأيديهم ورحلوا، هؤلاء لا عذرَ لهم ولا مبرّرَ، همُ الذينَ تخلّوا لأنَّهم لم يجدوا في البقاءِ ما يستحقُّ التضحيةَ.

الحبُّ الصادقُ لا يُثنيهِ تعبٌ، ولا يطفئُهُ بُعدٌ، ولا تُوهنُهُ المسافاتُ، فالعاشقُ الحقيقيُّ هو ذاكَ المسافرُ الذي يحملُ وطنَهُ أينما حلَّ، يروي جذورهُ بالصبرِ، ولا يتركُ للغيابِ فرصةً ليُقيمَ بينَهُ وبينَ من يُحبُّ جدارًا من العُذرِ والخذلانِ. من يُريدُ البقاءَ لا يحتاجُ إلى معجزةٍ، بل يحتاجُ إلى قلبٍ مخلصٍ، وإلى يقينٍ بأنَّ اليدَ التي يُمسكُ بها اليومَ هي ذاتُها التي يجبُ ألّا يتركَها مهما اشتدَّ الطقسُ، ومهما تعثّرتِ الخطواتُ.

أما من اختارَ الرحيلَ، فهو كطائرٍ وجدَ غصنًا آخرَ يراهُ أكثرَ خضرةً، كظلٍّ يُبدّلُ ملامحَهُ مع تغيّرِ الشمسِ، وكبحّارٍ ضاقَت بهِ السفينةُ فبحثَ عن شاطئٍ آخرَ ولو كانَ وهميًا. هؤلاءِ لا يُجبرُهم شيءٌ على الغيابِ، إنّما يُجبرُهم القلبُ حينَ ينطفئُ فيهِ الشغفُ، وحينَ تُصبحُ الألفةُ عبئًا، وحينَ يُصبحُ البقاءُ مملًّا كصفحةٍ تكرّرتْ قراءتُها حتى بُليتْ حروفُها.

لا تُخدعوا بالأعذارِ، فالذينَ أرادوا البقاءَ وجَدوا ألفَ سبيلٍ، والذينَ أرادوا الفراقَ صنعوا ألفَ حجّةٍ. لا تلوموا الأقدارَ، بل لوموا الذينَ ادَّعوا الحبَّ ثمَّ فرّوا، الذينَ أقسموا أنَّهم جُزءٌ منكم ثمَّ خذلوكم. ليسَ الفراقُ غدرًا، ولكنَّ التبريرَ الزائفَ للخيانةِ هو الغدرُ بعينِهِ. لا أحدَ يرحلُ صدفةً، ولا أحدَ ينسى دونَ رغبةٍ، فالقلبُ لا يُصابُ بفقدانِ الذاكرةِ بينَ ليلةٍ وضحاها، إنما هو قرارٌ، قد يُغلّفُهُ البعضُ بالمبرّراتِ الواهيةِ، لكنَّهُ في جوهرهِ اختيارٌ صافٍ لا شائبةَ فيهِ.

من يُريدُ يستطيعُ، ومن اختارَ الفراقَ كانَ قادرًا على البقاءِ لكنَّهُ لم يُرِدْ، فتذكّروا دائمًا: الأعذارُ محضُ سرابٍ، والرحيلُ الحقيقيُّ هو الموتُ وحدَهُ، وما دونهُ اختياراتٌ تُشبهُ أيديًا تركتْ الحبلَ بإرادتها، ولم تُفلِتهُ الريحُ.

شاهد أيضاً

الآلاف يؤدون صلاة العشاء والتراويح في المسجد الأقصى

الآلاف يؤدون صلاة العشاء والتراويح في المسجد الأقصى

شفا – أدى آلاف المصلين، مساء اليوم الخميس، صلاة العشاء والتراويح في المسجد الأقصى المبارك، …