
الدكتور نمر بدوان ، عبقريةٌ يزينها التواضع ووفاءٌ يُخلِّده الزمان ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
يقولون إن الأرواح جنودٌ مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وفي رحلة الحياة، نلتقي بأشخاصٍ يتركون أثرًا خالدًا في أرواحنا، أثرًا لا يبهت مع الزمن، بل يزداد عمقًا كلما مضت الأيام. هؤلاء ليسوا مجرد أسماء عابرة، بل هم بصماتٌ مضيئة، تقودك نحو المعرفة، تمد لك يد العون حين تضيق بك السبل، وتزرع فيك يقينًا بأن الخير ما زال نابضًا في القلوب.
ومن بين هؤلاء، كان الدكتور نمر بدوان..
الإنسانُ قبل أن يكون الباحث، الصديقُ قبل أن يكون الزميل، والمرشدُ الذي لم يبخل يومًا بمعرفته على من قصده طالبًا العلم والمشورة.
التواضعُ علمٌ يُدرَّس
في عالم البحث العلمي، قد تجد الكثيرين ممن يمتلكون العلم، لكن قلةً منهم من يمتلكون الروح النبيلة التي تجعله يشعّ على من حوله دون أن ينتظر مقابلًا. تعرّفت على الدكتور نمر بدوان عندما كنت أبحث عن طريقٍ لنشر أبحاثي في المجلات العالمية المصنفة ضمن سكوبس، وكان اللقاء الأول عبر سؤالٍ بسيط، لكنه كشف لي عن معدن رجلٍ استثنائي، لم يتردد لحظةً في تقديم المساعدة، ولم يجعل من علمه سورًا عاليًا لا يُطال، بل فتح أبوابه بكل تواضع، وأعطى من وقته وعلمه بلا حساب.
في حين يتجاهل البعض حتى الرد على مكالمة، كان الدكتور نمر يجلس معي بصبر، يشرح، يوجّه، يضع بين يديّ خُلاصة معرفته وكأن نجاحي نجاحٌ له، وكأن تقدّمي خطوةً هو إنجازٌ يُضاف إلى رصيده.
مرت الأيام، واحتجت إلى مُحكّمٍ لبحثٍ كنت أسعى لنشره، ولم أتردد في اللجوء إليه، ولم يتردد لحظةً في القبول. قرأ البحث بدقة، لم يجامِل ولم يُجامل، أشار إلى مواضع القوة، ولفت انتباهي إلى النقاط التي تحتاج إلى تحسين، بأسلوبٍ لا يُشعرك بالنقص، بل يدفعك نحو التطوّر بثقة. ومنه تعلّمتُ أن العلم ليس فقط ما نكتبه في الأوراق، بل هو ذلك الأثر الذي نتركه في الآخرين، تلك الأيدي التي نمدّها لهم في طريقهم، لنمضي معًا بدلًا من أن يمضي كلٌّ منا وحده.
أخٌ لا ينسى.. ووفاءٌ لا يموت
ما استوقفني حقًا في شخصية الدكتور نمر بدوان لم يكن علمه الواسع فحسب، بل ذلك الوفاء الذي قلّ نظيره في هذا الزمن. حين علمت بقصة شقيقه الشهيد طارق بدوان، أدركت أنني أمام إنسانٍ لم يكن النجاح الأكاديمي كل حياته، بل كان يحمل رسالةً أكبر، رسالة الوفاء لمن سبقوه، ولمن تركوا أثرهم في قلبه قبل أن يتركوا هذه الدنيا.
في كل إنجازٍ يُحقّقه، في كل بحثٍ ينشره، في كل خطوةٍ جديدةٍ يخطوها في درب العلم، كان يحرص على أن يُهديها لروح أخيه الشهيد، وكأنه يُبقيه حاضرًا رغم الغياب، وكأن النجاح لم يكن ليكتمل دون أن يكون لأخيه الراحل نصيبٌ منه.
هذا الوفاء ليس مجرد كلماتٍ تُكتب على مواقع التواصل، بل هو رسالةٌ تُترجم في أفعال، وهو ارتباطٌ روحيٌ لا تقطعه المسافات ولا يغيّبه الموت.
نموذجٌ يُحتذى به
الدكتور نمر بدوان ليس مجرد باحثٍ متميّز أو أكاديمي ناجح، بل هو نموذجٌ يُثبت أن العلم بدون أخلاقٍ لا قيمة له، وأن النجاح بدون تواضعٍ لا يدوم، وأن الإنسان الحقيقي هو من يترك أثرًا لا يُمحى في قلوب من حوله.
دكتور نمر،
أنتَ لست مجرد اسمٍ في قائمة العلماء، أنتَ بصمةُ إنسانٍ يعرف كيف يمدّ يده لمن حوله، دون أن يسأل ماذا سيأخذ بالمقابل.
أنتَ لست مجرد باحثٍ يكتب الأوراق العلمية، بل أنتَ عقلٌ يُفكر، وقلبٌ ينبض بالعطاء، ووفاءٌ يُدرّس للأجيال القادمة.
أنتَ الدليل على أن العلم يُمكن أن يكون رسالةً، وأن النجاح يُمكن أن يكون سلمًا يرتقي عليه الجميع، لا جدارًا يحجب عن الآخرين الرؤية.
فشكرًا لك، لأنك كنت وما زلت نورًا في درب الكثيرين، وشكرًا لأنك لم تكن فقط زميلًا، بل كنتَ أخًا، وصديقًا وأثرًا لا يزول.