2:01 صباحًا / 17 مارس، 2025
آخر الاخبار

مدينة جنين ، حين يصبح الوطن سجنًا كبيرًا ، بقلم : أ. جندل صلاح

مدينة جنين ، حين يصبح الوطن سجنًا كبيرًا ، بقلم : أ. جندل صلاح

مدينة جنين ، حين يصبح الوطن سجنًا كبيرًا ، بقلم : أ. جندل صلاح

في لحظة خاطفة، قد ينهار كل ما تملك. قد تسقط جدران بيتك على ذكرياتك، ويهوي سقفه على أحلامك، وتجد نفسك في العراء، لا تملك سوى ملابسك التي كانت على جسدك حين وقعت الفاجعة. تلك هي قصة مخيم جنين اليوم، حيث تحولت الحياة إلى كابوس ممتد، لا ينتهي عند نقطة ولا يقف عند حدود.

كان من المفترض أن يكون اليوم بداية فصل دراسي جديد، يمتلئ بضحكات الأطفال وهم يركضون نحو مدارسهم، يحملون حقائبهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة. لكن بدلًا من ذلك، كانت المدارس مغلقة، والنوافذ مهجورة، والمقاعد فارغة. لم يكن الأمر مجرد تأجيل لدروس، بل كان درسًا قاسيًا في القهر والحرمان، حيث أصبحت الدراسة رفاهية لا مكان لها في قاموس الحياة اليومية في المخيم.

مخيم تحت الحصار… الحياة خلف الأسلاك الشائكة

منذ أكثر من شهرين، والأونروا عاجزة عن تقديم خدماتها في مخيم جنين، وكأن يد العون قد بُترت عمداً، ليبقى المخيم وحيدًا في مواجهة حصار يخنقه ببطء. لم يكن هناك إنذار مسبق قبل القصف، ولم يكن هناك تحذير قبل أن تتساقط المنازل كأوراق الخريف. كل شيء حدث فجأة، وكأن الزمن توقف ليترك الناس في فراغ موحش، بلا طعام، بلا دواء، بلا حياة.

الناس هناك لا يبحثون عن الرفاهية، بل عن أبسط الحقوق التي أصبحت أحلامًا مستحيلة: شربة ماء نظيفة، دواء لطفل مريض، رغيف خبز يسد الجوع الذي استوطن الأجساد الهزيلة. ومع كل هذا، لم تكن هناك أي خطة حقيقية لاستيعاب النازحين، لا من الجهات الرسمية ولا من أي جهة أخرى. وحدها المبادرات الشبابية، على ضعف إمكانياتها، حاولت أن ترمم جراح المكلومين، ولكن كيف لعصفور صغير أن يحمل جبلًا فوق جناحيه؟

حياة مشلولة… وأحلام تحت الأنقاض

في المخيم، لم تعد هناك فرص عمل، ولم يعد هناك اقتصاد، بل حتى الحياة نفسها باتت حلمًا مؤجلًا. منازل مدمرة، شوارع غطاها الركام، وأجساد منهكة تبحث عن مأوى في العراء. ارتفعت أسعار الإيجارات إلى مستويات خيالية، وكأن من بقي على قيد الحياة يُعاقب على نجاته. كيف لمن فقد كل شيء أن يدفع إيجار منزل جديد؟ وكيف لمن نجا من الموت أن يدفع ثمن الحياة بدموعه؟

الأمر الأكثر إيلامًا أن الاحتلال لا يكتفي بالقصف والتدمير، بل يسعى إلى محو المخيم من الخريطة، كأنّه يريد اقتلاع جذوره من الأرض، وإلقاء سكانه إلى الريح. الطرق تُشق فوق أنقاض المنازل، والنقاط العسكرية تُقام حيث كانت تنبض الحياة. يريدون أن يجعلوا من المخيم ذكرى، مجرد سطر في كتب التاريخ، لكنهم لا يدركون أن الذاكرة لا تُمحى، وأن الأرض التي شهدت دماء الشهداء لن تنسى أصحابها.

العدوان بلا سقف… والليل بلا نهاية

لم يكن لهذا الليل أن ينتهي، وكأنّ الزمن قد تجمد عند لحظة العدوان. قبل أيام، حاول بعض الأهالي العودة بعد تنسيق رسمي، لكن ما إن وصلوا إلى المدخل الشرقي حتى وجدوا أنفسهم أمام جنود الاحتلال، الذين أجبروهم على العودة، ليصبحوا نازحين مرة أخرى، وكأنّ الأرض ترفض أن تمنحهم موطئ قدم.

وفي فجر يوم 21 يناير 2025، كان المخيم على موعد مع كارثة جديدة. أُغلقت كل الطرق، وأُطبق الحصار حتى كاد الهواء ينقطع عن سكانه. تسعة شهداء سقطوا في اللحظات الأولى، ليس في معركة، بل وهم يحاولون الخروج مع عائلاتهم، بحثًا عن مأوى يقيهم شر القذائف. أما من نجا من الرصاص، فقد خرج سيرًا على الأقدام، يحملون أطفالهم فوق أكتافهم، ويمسحون دموعهم في صمت، حتى لا يرعبوا صغارًا لم يعودوا يفهمون معنى الأمان.

نزوح تحت فوهات البنادق… وخروج إلى المجهول

عند المدخل الغربي، كان المشهد كابوسيًا. الآليات العسكرية تنتظر، والجنود يصطفون كأنهم على أبواب معتقل كبير، لا على مداخل مدينة. لم يُسمح للناس بالخروج دفعة واحدة، بل كانوا يُجبرون على التقدم خمسةً خمسة، يُصوَّرون بطائرات الدرون وكأنهم متهمون في محكمة الموت، يُعتقل بعضهم، ويُجبر الباقون على السير تحت أعين القناصة.

خرجوا من المخيم حفاة القلوب قبل الأقدام، لم يحملوا معهم سوى ما تبقى من أرواحهم، ليجدوا أنفسهم في عراء موحش. بعضهم انتهى في حاويات حديدية، وآخرون في منازل غرباء، أما الحظ الأقل قسوة فقد ألقى بهم في مراكز إيواء محدودة.

حين يتحول البرد إلى قاتل…

خرجوا لكنهم لم يخرجوا حقًا، فما تركوه وراءهم لم يكن مجرد بيوت، بل كان أعمارهم بأكملها. 20,000 نسمة أصبحوا بلا مأوى، وأصبح البرد عدوًا آخر يتربص بهم. الأطفال يصرخون من شدة البرد، النساء يلتففن بعباءات لا تقيهن شيئًا، والشيوخ يحاولون أن يدفئوا أياديهم المرتجفة بذكرى منازلهم التي كانت يومًا مأوى دافئًا.

أي مأساة هذه التي تجعل الإنسان يشعر بالغربة في وطنه، وتجعله نازحًا على أرضه؟ أي عدوان هذا الذي لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يريد أن يسرق الهواء أيضًا؟

جنين… الجرح المفتوح والصمت القاتل

وسط كل هذا، يصمت العالم، وكأن جنين ليست سوى اسم في نشرة الأخبار، وكأن أهلها ليسوا بشراً لهم حقوق في هذا العالم. بينما تحترق المخيمات، تظل الإنسانية في سبات عميق، ترفض أن تفتح عينيها لترى ما يحدث، كأن الصمت أصبح شريكًا في الجريمة.

لكن رغم كل شيء، يبقى المخيم ثابتًا، كما بقي من قبل، وكما سيبقى إلى الأبد. فقد علم التاريخ أن جنين ليست مجرد بقعة على الخريطة، بل هي قصة صمود، رواية كتبها الشهداء، وحكاية ستبقى تُروى للأجيال القادمة، حتى لا يُنسى أن هناك يومًا كان فيه الوطن سجنًا كبيرًا، وأن الليل قد طال، لكنه حتمًا سينجلي.

  • – الأستاذ جندل صلاح – فلسطين .

شاهد أيضاً

شهيد في قصف للاحتلال جنوب مدينة غزة

شفا – استشهد شاب في قصف للاحتلال الإسرائيلي جنوب مدينة غزة. وأفاد مراسلنا باستشهاد الشاب …