
الدكتور زهير ناجي خليف “إنما الإنسانُ أثرٌ… والعلمُ صدقةٌ لا تنقطع” ، بقلم: د. تهاني رفعت بشارات
في دروبِ البحثِ العلميّ، لا يمضي الباحثُ وحده، بل يخوضُ رحلةً مليئةً بالمنعطفات، يتعثّرُ أحيانًا، ويحلقُ أحيانًا أخرى، وبين السقوطِ والنهوضِ تتجلى أيادٍ خفية، تحملُ مشاعلَ النور، وترسمُ في مسيرتهِ بصمةً لا تُمحى. فالباحثُ، مهما بلغَ من العلم، يظلُّ في حاجةٍ إلى من يُنيرُ له الطريق، إلى من يفتحُ له نافذةً في جدارِ الغموض، إلى من يمدُّهُ بأجنحةٍ تجعلهُ يُحلّقُ بثباتٍ في سماءِ المعرفة.
وفي رحلتي العلمية، شاءَ القدرُ أن ألتقي بأحدِ هؤلاء النُبلاءِ، رجلٌ لم يكن مجرّدَ أستاذٍ جامعيّ، بل كان منارةً تُرشدُ الباحثين، وسحابةَ علمٍ تمطرُ دون حساب، إنه الدكتور زهير ناجي خليف، الذي كان أثرهُ في مسيرتي نقشًا خالدًا في ذاكرتي الأكاديمية، وصوتًا يهمسُ لي كلّما واجهتُ عقبةً: “لا تتوقّفي، فالعلمُ نهرٌ لا ينضب، وكلُّ خطوةٍ على دربهِ نورٌ لا يخبو.”
حينَ يُختصرُ العطاءُ في إنسان
في قلبِ فلسطين، حيثُ جامعة النجاح الوطنية في نابلس، كان اللقاءُ الأولُ بالدكتور زهير خليف، أستاذٌ وباحثٌ لا يُضاهى، جمعَ بين عبقريةِ البحثِ العلميّ وتواضعِ الإنسانِ الحقيقيّ. لم يكن مجردَ أكاديميّ يلقي محاضراتهِ في القاعاتِ الدراسية، بل كانَ روحًا علميةً متّقدة، يحملُ في كلماتهِ إشراقةَ المعرفةِ، وفي أسلوبهِ لمسةً أبويةً تعيدُ إلى العلمِ ألقهُ الإنسانيّ.
حين كنتُ أعملُ على تحليلِ بياناتِ رسالتي للدكتوراه في ماليزيا، واجهتُ تحديًا كبيرًا في البحثِ النوعيّ، ذلك الميدان الذي يحتاجُ إلى عقلٍ متعمّق، ونظرةٍ تتجاوزُ حدودَ الكلمات، وتستخرجُ المعاني الكامنة في تفاصيلِ البيانات. كنتُ بحاجةٍ إلى خبيرٍ يُوجّهُ خطواتي، وكان القدرُ قد أعدَّ لي لقاءً لا يُنسى، مع أحدِ أعمدةِ هذا المجال، الدكتور زهير خليف، الرجلُ الذي يحملُ في جعبتهِ أكثر من مئة بحثٍ علميّ محكَّم، وصاحبُ البصمةِ الواسعةِ في ميدان البحث النوعي.
عطاءٌ بلا حدود، ووقتٌ يُمنح بسخاء
لم يكن اللقاءُ مجرّدَ استشارةٍ أكاديمية، بل كان درسًا في كرم العلم، وأخلاقيات البحث، والتواضع الذي يزيدُ العالِمَ رفعةً. دخلتُ مكتبهُ وأنا أحملُ بين يديَّ أوراقي وبياناتي، وفي قلبي ثقلُ التحديات، وما إن استعرضَ عملي حتى ارتسمَت على وجههِ ابتسامةُ إعجاب، وكلماتُ تقديرٍ لا تُنسى:
“تحليلُكِ متقنٌ، وعملكِ يعكسُ فهمًا عميقًا للبحث النوعيّ، لديكِ عينُ الباحثِ الحقيقيّ الذي لا يكتفي بظاهرِ النصوص، بل يغوصُ في أعماقها.”
كانت تلكَ الكلماتُ كوقودٍ يُشعلُ العزيمة، وكضوءٍ يتسلّلُ إلى أروقةِ البحثِ ليكشفَ لي أنني على الطريقِ الصحيح.
ولكنهُ لم يكتفِ بالإشادةِ والتقدير، بل خصّصَ لي أكثر من ساعتين من وقته ليُرشدني إلى منهجياتٍ أكثر دقة، ويعلّمني كيف أُفكّرُ كباحثةٍ تُحلّلُ السياقاتِ لا الكلماتِ فقط، تُفسّرُ الدلالاتِ لا الأرقامِ وحدها، وتجعلُ من البحثِ رحلةَ اكتشافٍ لا مجردَ متطلباتٍ أكاديمية.
اللقاء الذي غيّر الكثير…
خرجتُ من ذلك اللقاءِ وأنا أحملُ معي زادًا معرفيًا يتجاوزُ حدودَ البحث الأكاديميّ، فقد تعلّمتُ أنَّ العلمَ رسالةٌ لا وظيفة، والعطاءَ الحقيقيّ لا يُقاسُ بساعاتِ التدريس، بل بالتأثيرِ الذي يتركهُ العالمُ في طلابهِ وزملائهِ.
وحين أكملتُ رحلتي البحثية، وعُدتُ إلى فلسطين، أدركتُ أنَّ ما قدمهُ لي الدكتور زهير لم يكن درسًا في البحثِ النوعيّ فحسب، بل كان درسًا في الإنسانية، وفي أنَّ العِلمَ الذي لا يُشارك، يموتُ بين دفاترِ صاحبه.
لأن الأثرَ لا يموت…
مرت الأيام، وأتممتُ مرحلةَ الدكتوراه بتفوقٍ وامتيازٍ من جامعة USIM في ماليزيا، لكنَّ أثرَ الدكتور زهير لم يتوقفْ عندَ لحظةِ اللقاءِ الأول. فقد ظلَّ دعمهُ مستمرًا، وبقيتْ نصائحهُ تترددُ في ذهني كلّما تعمقتُ في البحث، وكلّما ساعدتُ طالبًا أو زميلًا، كنتُ أستعيدُ درسهُ الكبير: “العلمُ إرثٌ، فلا تبخلْ بهِ على من يحتاجه.”
ولم يكن تأثيرهُ مقتصرًا عليّ وحدي، بل كان جسرًا عبَرَ عليه الكثيرُ من الباحثين. ففي أحد اللقاءات، سألتُ زميلًا، الدكتور شعبان، عنه، فأجابني بحماسٍ:
“إنهُ قمةٌ في الأخلاقِ والعلم، ساعدني كثيرًا في تحليلِ البحثِ النوعيّ، ولم يبخلْ عليَّ بنصيحةٍ أو وقت.”
وهكذا، أدركتُ أنَّ العالِمَ الحقيقيّ لا يُعرفُ بألقابهِ، ولا بشهاداتهِ، بل بآثارهِ التي تمتدُّ في الآخرين، بكرمِه العلميِّ الذي يجعلُ منهُ نهرًا يفيضُ عطاءً دون توقف.
شكرًا… لأنك كنتَ أثرًا لا يُنسى
الدكتور زهير خليف، لكَ منّي، ومن كلِّ من مرَّ بكَ واحتاجَ إلى علمك، كلُّ الامتنان. كنتَ كشجرةٍ وارفةٍ، يستظلُّ بها الباحثون، وكالنهرِ الذي لا ينضب، وكالضوءِ الذي لا يخبو. كنتَ بصمةً خالدةً في رحلتي الأكاديمية، وأساسًا متينًا في فهمي للبحثِ النوعيّ.
لأنَّ الإنسانَ أثرٌ، والعلمَ نورٌ لا ينطفئ، والعطاءَ لا يموت، فشكرًا لأن أثركَ سيبقى ممتدًا في دروبِ المعرفةِ، من جيلٍ إلى جيل.