12:25 صباحًا / 11 مارس، 2025
آخر الاخبار

“الأستاذ طارق علاونة ، قامة تربوية سامقة وروحٌ تفيض نبلاً وعطاءً” ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

“الأستاذ طارق علاونة… قامة تربوية سامقة وروحٌ تفيض نبلاً وعطاءً” ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

حين تسير في دروب الحياة، تلتقي بأشخاصٍ يتركون بصمة لا تُمحى في قلبك وعقلك، أشخاصٍ لا يكون تأثيرهم عابراً، بل يغرسون في داخلك قيماً ومبادئ تصاحبك مدى العمر. ومن بين أولئك القلائل الذين يحفرون أسماءهم في سجل الذكرى النقي، الأستاذ الفاضل طارق علاونة، ذلك المعلم الذي لم يكن مجرد ناقلٍ للعلم، بل كان قدوةً في التواضع، نموذجًا في الأخلاق، ومعلّمًا بحق، يُؤمن أن التعليم رسالة، وأن أثر المعلم لا يقتصر على قاعات الدراسة، بل يمتد ليُشكّل وجدان طلابه، وينير لهم الدروب.

أستاذي في الترجمة… والعلم الذي يورث تواضعًا

كان لي الشرف العظيم أن أكون إحدى طالبات الأستاذ طارق علاونة، حينما درستُ مادة الترجمة (Translation) خلال مرحلة البكالوريوس في جامعة القدس المفتوحة. منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها إلى قاعة الدرس، شعرتُ أنني أمام معلمٍ ليس كغيره، فأسلوبه في الشرح كان استثنائيًا، مزيجًا من العلم العميق والبساطة التي تسهّل الفهم، يشرح الفكرة وكأنه ينقشها على جدران العقل، فلا تُنسى. لم يكن مجرد أستاذ يُلقي محاضراته ويمضي، بل كان مربيًا بحق، يُشعر طلابه بقيمتهم، يُعاملهم بكل احترام، ويجعلهم يؤمنون بأنفسهم، وبقدراتهم الكامنة.

رغم أن مادة الترجمة ليست بالأمر الهيّن، إلا أنني حصلتُ فيها على علامة عالية، ليس لأنني كنتُ بارعةً فيها وحسب، بل لأنني كنتُ أمام أستاذٍ يعرف كيف يُحبب طلابه بالمادة، ويجعلهم يدرسونها بشغف، وهذا هو المعلم الحقيقي، ذاك الذي لا يملأ العقول بالمعلومات فقط، بل يُشعل فيها جذوة المعرفة، ويجعل من التعلم متعةً لا عبئًا.

لقاءٌ آخر… حين يتجلّى النبل في أجمل صوره

مرت الأيام، وتقلّبت الفصول، وتخرجتُ من الجامعة، لأجد نفسي أقف في الصف ذاته، لكن هذه المرة كمعلمة، أقدّم لطلابي ما تعلمته يومًا، وأحاول أن أكون لهم كما كان أستاذي لي. وذات يومٍ خلال عملي في إحدى المدارس الخاصة، كان لدينا فعالية “اليوم المفتوح”، وهي مناسبةٌ تعليميةٌ تتيح للطلاب والمعلمين تقديم أفكارهم ومشاريعهم بأسلوبٍ تفاعلي، وقد كنا حينها نحتفي بافتتاح مختبر اللغة الإنجليزية، فتم اختيار زميلتي وأنا لنكون مسؤولتين عن تقديمه وشرح نشاطاته باللغة الإنجليزية أمام الضيوف المدعوين.

ومن بين ضيوف الشرف، كان الأستاذ طارق علاونة حاضرًا، ضمن اللجنة التي شُرّفت المدرسة باستضافتها، وكأن القدر أراد أن يربط خيوط الزمن ببعضها، ليجمع بين طالبةٍ وأستاذها في موقفٍ لم أكن أتخيّله يومًا. كانت سعادتي لا توصف حينما وجدت نفسي واقفةً أمام من علّمني، أقدّم عرضي باللغة الإنجليزية بكل ثقة، وأشعر بنظرات التشجيع والفخر التي ملأت عينيه.

لكن اللحظة الأكثر تأثيرًا لم تكن فقط في لقائي بأستاذي، بل في موقفٍ إنسانيّ نبيلٍ كشف عن جوهره الحقيقي. كانت زميلتي التي تشاركني العرض متوترة للغاية، خشية أن تخطئ في نطق بعض الكلمات، وأمام عيون الحاضرين شعرتُ بارتباكها يزداد، لكن الأستاذ طارق، كعادته، لم يكن ليدع القلق يسيطر عليها، فابتسم ابتسامته الدافئة، وقال لها بكل هدوء: “لا بأس، أنا أكمل عنك”، ثم بدأ يتحدث بالإنجليزية بطلاقة، متيحًا لها فرصة لاستعادة أنفاسها.

كان موقفًا بسيطًا في ظاهره، لكنه يحمل في جوهره درسًا عظيمًا عن الإنسانية، عن جبر الخواطر، عن كون التقدير طاقةً تُحرك الجبال، وعن أن الكلمات الطيبة تُعيد للمرء ثقته بنفسه، وتمنحه القوة ليُكمل.

أستاذ لا يُنسى… ورجلٌ يفتح أبواب النجاح لغيره

بعد انتهاء الفعالية، اقترب مني الأستاذ طارق، وبابتسامته الهادئة قال لي: “أنا أتذكركِ، كنتِ إحدى طالباتي، أليس كذلك؟” كانت تلك الجملة وحدها كفيلةً بأن تجعلني أشعر بالفخر والاعتزاز، فكم هو رائعٌ أن يتذكرك أستاذك بعد سنوات، أن تبقى في ذاكرته رغم مرور عشرات الطلاب من بعدك، أن تكون بصمتك واضحةً في ذهنه كما ترك بصمته في قلبك.

ولم يكن ذلك الموقف سوى امتدادٍ لروحٍ أصيلة، اعتادت أن ترى الأفضل في الآخرين، وأن تفتح لهم أبواب النجاح، بدلًا من أن تُغلقها. فما أروع أن يكون الإنسان سببًا في بناء الآخرين، وما أجمل أن يكون المعلم قائدًا حقيقيًا، لا يصنع النجاح لنفسه فقط، بل يُضيء الدرب لطلابه، ليحملوا شعلة العلم بعده.

شكرًا أستاذي… شكرًا لأنك كنت أكثر من مجرد معلم

لا كلمات تكفي لوصف الامتنان الذي أحمله في قلبي لهذا الإنسان الفاضل، الذي كان لي معلمًا في قاعات الجامعة، ثم قدوةً في ساحات الحياة.

شكرًا أستاذي على علمك الواسع، الذي لم تبخل به يومًا.
شكرًا على تواضعك الذي يرفعك في عيون الجميع.
شكرًا على دعمك الذي منحني ثقةً لا حدود لها.
شكرًا لأنك لم تكن مجرد معلم، بل كنت إنسانًا قبل كل شيء.

يبقى المعلم الجيد في الذاكرة، لكن المعلم العظيم يبقى في القلب، وأنت يا أستاذ طارق علاونة، ستبقى دائمًا من أولئك الذين نذكرهم بفخر، ونحمل لهم امتنانًا لا يُمحى.

شاهد أيضاً

أعلى هيئة استشارية سياسية في الصين تختتم دورتها السنوية وتتعهد بإسهام أكبر في تحديث البلاد

بالصور .. أعلى هيئة استشارية سياسية في الصين تختتم دورتها السنوية وتتعهد بإسهام أكبر في تحديث البلاد

شفا – اختتمت أعلى هيئة استشارية سياسية في الصين، يوم الاثنين، دورتها السنوية، داعية المستشارين …