9:31 مساءً / 9 مارس، 2025
آخر الاخبار

الدكتور أحمد الجنازرة ، إنما الإنسانُ أثر ، وشرفُ المعرفةِ دربٌ لا يُنسى ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

الدكتور أحمد الجنازرة ، إنما الإنسانُ أثر ، وشرفُ المعرفةِ دربٌ لا يُنسى ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

الدكتور أحمد الجنازرة ، إنما الإنسانُ أثر ، وشرفُ المعرفةِ دربٌ لا يُنسى ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

حينَ تفتحُ الحياةُ أبوابَها لكَ بلُطفٍ، وتبعثُ إليكَ بشخصياتٍ استثنائية، تدركُ أنَّ للمعرفةِ وجهًا آخر، وجهًا لا تقتصرُ ملامحُه على الكتبِ والأوراقِ، بل يتجسدُ في القلوبِ النبيلةِ والعقولِ العظيمةِ التي تُخلِّدُ أثرًا لا يمحوهُ الزمن. ومن بين هؤلاءِ الذين خلَّدوا أثرًا في حياتي، كان الدكتور الفاضل أحمد الجنازرة من جامعة بيرزيت، رجلٌ حملَ في كلماتهِ العلمَ وفي تعاملهِ الرقيَّ وفي شخصهِ التواضعَ الذي يزيدُ المرءَ رفعةً وهيبةً.

ما زلتُ أذكرُ تلك اللحظةَ التي تلقيتُ فيها اتصالًا بعد حصولي على درجة الدكتوراه، يدعوني فيها الدكتور أحمد للعملِ على بحثٍ كمساعدٍ باحث. كان الأمرُ بالنسبةِ لي فرصةً ذهبيةً، لا من أجل العملِ فحسب، بل لأنَّها كانت بوابةً للتعلمِ من رجلٍ نذرَ نفسهُ للعلمِ ولطلابهِ.

حين حانَ موعدُ المقابلة، كنتُ أتجهزُ لها بحماسٍ ممزوجٍ بالرهبةِ، فالجلوسُ مع قامةٍ أكاديميةٍ مرموقةٍ كالدكتور أحمد يُشبهُ الوقوفَ أمامَ نافذةٍ تُطلُّ على آفاقٍ جديدةٍ من الفكرِ والمعرفةِ. وحينَ دخلتُ إلى مكتبهِ، وجدتُ نفسي أمامَ رجلٍ تسبقُه ابتسامتُه، تُبدِّدُ أيَّ توترٍ وتُشعِرُكَ وكأنكَ في حضرةِ أخٍ أو صديقٍ قبلَ أن تكونَ في حضرةِ أستاذٍ جامعيٍّ مرموق.

دار الحديثُ بيننا بسلاسةٍ تُشبهُ تدفُّقَ نهرٍ رقراقٍ في صباحٍ ربيعيٍّ، لا تعيقُهُ الصخورُ، بل تزيدُهُ جمالًا. كان يسألني عن مسيرتي الأكاديميةِ، عن التحدياتِ التي واجهتُها، عن الصعوباتِ التي تتطلبُ جَلَدًا لا يلينُ، ثمَّ توقفَ للحظةٍ وقال بابتسامةٍ ودودة: “الوضعُ في فلسطينَ صعبٌ، والمواصلاتُ بينَ جنينَ ورام الله ليستْ بالأمرِ اليسير، فهل ستكونينَ قادرةً على الحضورِ بانتظام؟”

ابتسمتُ وأنا أستعيدُ في ذاكرتي تلك الرحلةَ الطويلةَ التي خضتُها، رحلةً لم تقتصرْ على جغرافيا المكانِ فحسب، بل امتدتْ إلى أعماقِ ذاتي، فقلتُ له بثقةٍ وإصرار: “لقد قطعتُ آلافَ الأميالِ من جنينَ إلى ماليزيا من أجلِ الدكتوراه، فكيفَ لا أقطعُ هذه المسافةَ القصيرةَ من أجلِ العلمِ والعملِ في وطني؟”

رأيتُ في عينيهِ احترامًا ممزوجًا بالإعجاب، وكأنَّه أدركَ أنَّ الطموحَ لا يعرفُ قيودَ المسافاتِ ولا تعيقُهُ حدودُ الجغرافيا، بل هو نجمٌ يهتدي إليهِ صاحبهُ مهما اشتدَّ ظلامُ الطريق. وبالفعل، حصلتُ على الفرصةِ وبدأنا العملَ على البحثِ، وكانتْ تجربةً رائعةً، ليستْ فقط من الناحيةِ العلميةِ، بل من الناحيةِ الإنسانيةِ أيضًا، فقد اكتشفتُ في الدكتور أحمد رجلًا يُؤمنُ بأنَّ العلمَ رسالةٌ، وأنَّ الباحثَ الحقيقيَّ هو من يحملُ نورَ المعرفةِ ليضيءَ بهِ دروبَ الآخرين.

ولكنَّ الأقدارَ أحيانًا تمضي بما لا نشتهي، فبسببِ الظروفِ السياسيةِ والوضعِ الصعبِ الذي يعيشهُ وطنُنا الحبيب، لم يكتملِ المشروع، لكنَّني لم أخرجْ منهُ خاليةَ الوفاض، بل خرجتُ بثروةٍ أثمنَ من أيِّ بحثٍ منشورٍ، ثروةِ المعرفةِ، والعلاقاتِ الإنسانيةِ الصادقةِ، وذكرياتٍ ستبقى محفورةً في وجداني ما حييت.

وها أنا اليوم، حينَ أتأملُ تلكَ التجربة، أدركُ أنَّ الأثرَ الحقيقيَّ لا يكمنُ في الإنجازاتِ بقدرِ ما يكمنُ في النفوسِ التي مررنا بها، فبعضُ الأشخاصِ يعبرونَ حياتنا مرورَ الطيفِ، بينما آخرونَ يتركونَ بصماتٍ لا تمحوها الأيامُ، وهكذا كانَ الدكتور أحمد الجنازرة… إنسانًا عظيمًا وأثرًا خالدًا.

شاهد أيضاً

جهود غرفة العمليات الحكومية لإغاثة غزة: إزالة الركام والنفايات الطبية وتأمين الخدمات البلدية ومواجهة الحصار

شفا – عقدت غرفة العمليات الحكومية اليوم الأحد، اجتماعًا برئاسة سماح حمد، استضافت خلاله وزير …